كلّما نوقشتْ علاقةُ الفلسطينيين في الأراضي المحتلّة عام ٤٨ بمسألة التطبيع، تحوّل النقاشُ إلى خطاب "صكوك وطنيّة،" وإلى تبادل تهمٍ، أو استهزاء؛ الأمرُ الذي يُفرغ النقاشَ الحقيقيّ والموضوعيّ من مضمونه.
في اعتقادي أنّ هناك متضادّيْن يَحكمان هذه المسألة:
ــــ الأوّل هو أهمّيّة تواصل الفلسطينيّ في فلسطين 48 مع محيطه العربيّ، إسهامًا في ابتعاده عن المنظومة الثقافيّة الإسرائيليّة.
ــــ والثاني هو بلوغُ هذه الفلسطينيّ درجةً من الامتياز ــــ بسبب ظروف حياته اليوميّة، وبخاصةٍ حريّة حركته وحملِه جوازَ سفرٍ إسرائيليًّا يمكّنه من الوصول إلى أماكن كثيرة مقارنةً بأبناء شعبه في أماكن وجودهم المختلفة ــــ جعلته يعتقد أنّ رغبتَه في "التواصل" مع العالم أولويّةٌ ولو على حساب المصلحة الفلسطينيّة العليا. وفي رأيي أنّ هذه النقطة هي أساسُ الخطاب الفلسطينيّ الذي يشجِّع على "التواصل بلا ضوابط،" أيْ، على التطبيع.
سأتطرّق هنا إلى حالتين شائعتين في نقاش التطبيع: الأولى هي زيارة الفنّانين/ات العرب إلى الأراضي المحتلّة عام ٤٨. والثانية هي زيارة الفنّانين/ات من الأراضي المحتلة عام ٤٨ إلى الدول العربيّة أو عرض أعمالهم فيها.
***
بالنسبة إلى الحالة الأولى يَبرز دائمًا تبريرٌ لدى فلسطينيّي 48، ينطلق من أنّنا، نحن المليونَ ونصفَ المليون من البشر، عانينا كثيرًا جرّاء عزل "إسرائيل" لنا، وجرّاء مقاطعةِ العالم العربيّ لنا "عقابًا" على بقائنا في وطننا.
صحيح أنّنا عانينا هذا الغبنَ، ولكنّه جزءٌ من سلسلة معاناةٍ لا تنتهي نتيجةً لاستعمارنا، وتتّخذ أشكالًا متعدّدةً لدى أجزاء شعبنا المختلفة. وإنْ أردنا المقارنة، فسنجد أنّ غالبيّة أجزاء شعبنا تعاني أقسى ممّا نعانيه بكثير.
ثمّ تطوّر هذا التبرير إلى نَفَسٍ خطير يفصلنا عن نضال شعبنا بمفهومه الشموليّ. وربّما كان "انفتاحُنا" الآن على العالم العربيّ تعويضًا من عقودٍ من الحرمان. لكنْ أن نعوّض ذلك بأن نصبح أداةً تمكِّن "إسرائيل" من اختراق العالم العربيّ، فذلك يعني أنّ نؤكّد أنّ العالمَ العربيّ كان محقًّا في "تخوّفه" منّا.
(اللوحة لِمحمّد سباعنة)
إنّني أرى في مسألة "رفض التطبيع في العالم العربيّ" مسألةً فطريّةً قبل كلّ شيء، بمعنى أنّ سقفَها تَشَكّل من دون "معايير منصوصة،" بسبب كره العرب بالسليقة للاستعمار الإسرائيليّ ولأيّ تعاطٍ معه. ومع ذلك، فثمّة "معاييرُ حدٍّ أدنى،" فلسطينيّة، مكتوبة فعلًا، تتعلّق بفلسطينيّي ٤٨، وقد صيغت بعد سلسلة لقاءات ومشاورات فلسطينيّة.
هذه المعايير لا تنظر من منظار أهواء ابن الناصرة، الذي يرغب في حضور حفلة فنّان عربيّ في الناصرة أو حيفا، بل من منظار مصلحة الشعب الفلسطينيّ بأكمله. وهذه المعايير لا تعبِّر أيضًا عن السقف الأعلى القائم في العالم العربيّ؛ بل من العبث أن تَظهر أصواتٌ تطالب بخفض هذا السقف العالي من أجل رفاهيّة 13% من الشعب الفلسطينيّ بسبب الرغبة في "التواصل الثقافيّ."
إنّ القسمَ الأكبر من شعبنا لاجئ، ومحرومٌ من حقّه في العودة إلى دياره (أو مجرّد زيارتها)، أو يرزح تحت احتلال عسكريّ وسجنٍ تتحكّم "إسرائيل" في مَن يدخل إليه أو يخرج منه. لذا، بدلًا من أن نطالبَ هؤلاء بخفض المعايير وتمييعها، من الأجدى أن نكون نحن مَن يحافظ عليها! هذا ونسمع، عادةً، ادّعاءً حول "خصوصيّتنا في الداخل." فماذا تعني هذه الخصوصيّة؟ وإلى أين يمكن أن نصل بها؟
في اعتقادي أنّ "خصوصيّتنا" ليست مطيّةً أو حجّةً للمساس بالنضال الفلسطينيّ، بل يجب أن تكون رافعةً له. المشكلة هي في السياق الذي يَنظر إليه المتناقِش: فإذا كان السياق "أنّنا مواطنون في دولة الاحتلال، وأنّ سقفَ نضالنا ومطالبنا ومصائرنا هو المواطَنة المتساوية،" فسيكون من الصعب فعلًا أن يرى المتناقِش أيّةَ مشكلة في "خطاب الخصوصيّة" هذا. أما إذا كان المتناقِش يرى أنّ السياق هو "نضال الكلّ الفلسطينيّ ضدّ الاستعمار الصهيوني، كلّ من مكان وجوده، لإنهاء الاستعمار على كافّة فلسطين،" فسيرى المتناقش أنْ لا امتيازات لفلسطينيٍّ دون آخر.
***
أمّا بالنسبة إلى الزيارات الثقافيّة لفلسطينيّي الـ٤٨ إلى الدول العربيّة، فمن المهمّ أن يَفهم إخوانُنا وأخواتُنا العرب تركيبةَ علاقتنا بهذا الكيان، والعلاقاتِ القسريّة التي تفرضها "مواطَنتُنا" فيه. وحين نتطرّق إلى موضوع الفنّ والفنّانين، فعلينا أن نتذكر أنه قبل ٢٠ــــ٣٠ عامًا عزلتْنا الدولُ العربيّةُ وقاطعتْنا. حينها، لم تكن أمام غالبيّة الفنّانين الفلسطينيين خياراتٌ كثيرة، وخصوصًا في مجال المسرح والسينما. أما في مجالاتٍ أخرى، حيث لا حاجة إلى ميزانيّاتٍ ضخمة أو تقنيّاتٍ معقّدة، فلم يرتبط الفلسطينيُّ إطلاقًا بالإنتاج الإسرائيليّ، كالموسيقى أو الشعر أو الفن التشكيليّ. لذلك عادةً ما يكون النقاش شائكًا عندما يتعلق الأمر بالمسرح والسينما تحديدًا.
إلى اليوم، جزءٌ كبير من مسارحنا ومشاريعنا السينمائيّة داخل فلسطين 48 يجري تمويلُه عن طريق مِنحٍ من وزارة الثقافة الإسرائيليّة أو صناديق دعم إسرائيليّة، ويطالِبُ أهلُ الفنّ بها لكونها "حقًّا من حقوقنا كدافعي ضرائب" إلى الدولة الإسرائيليّة. كما أنّ جزءًا كبيرًا من فنّاني 48 دَرَس ويدْرس المسرحَ والسينما في الجامعات الإسرائيليّة، ويشارك غالبًا في أعمالٍ مسرحيّةٍ أو سينمائيّة في الجامعة مع زملائه اليهود، وبخاصّةٍ في مشاريع التخرّج. فإذا كنّا نريد أن نحاسب أيَّ فنّان فلسطينيّ على تورّطه بالعمل مع إسرائيليين، أو على حصوله يومًا ما على تمويلٍ إسرائيليّ، فاعتقد أنّنا سنعاقِب الغالبيّة الساحقة من فنّاني الـ٤٨!
علينا أولًا أن نرفض تقبّلَ مسألة التمويل كـ"شرّ لا بدّ منه." فحتى لو لم يكن مشروطًا، فإنّه يسهم في تجميل الاستعمار تحت شعار: "دولة ديمقراطيّة لأنّها تموِّل مشاريعَ فلسطينيّةً تنتقدها." وأعتقد أنّ علينا جميعًا المساهمةَ في تطوير بدائل لا تفرض شروطَها علينا، وأنّ على الفنّان الفلسطينيّ أن يبذل قصارى جهده في البحث عن فرص تمويلٍ أخرى. فإنْ لم يجد البدائل، وحصل على التمويل الإسرائيليّ، فعليه ألّا يَفرضَ عملَه على العالم العربيّ، ليس لأنّه خائن، بل لأنّ من واجبه ألّا يصبحَ أداةً لاختراق العالم العربيّ.
أما لدى دعوة فنّانٍ بعينه من فلسطينيي 48 إلى الوطن العربيّ، فهناك أمورٌ بديهيّة. إذ لا يمكن استقبالُه، أو استقبالُ عمله، إذا حصل على جوائز من مهرجانات/مؤسّسات إسرائيليّة، أو مثّل الاحتلالَ في الخارج، أو شارك في أعمال ترويجيّة للاحتلال، إلى آخره. لكنّني لا أقترح أن يقاطَعَ فنّانٌ شارك في أعمال إسرائيليّة، أو حصل يومًا ما على تمويل إسرائيليّ؛ فهذا ــــ كما ذكرتُ آنفا ــــ غير منطقيّ.
***
أعتقد أنّ من المهمّ فتحَ قنواتِ حوار بين الفلسطينيين وبقيّة العرب. ولا ضير في تنظيم ذلك من خلال شبكة الإنترنت، ليس بهدف خفض السقف، بل لحثّ فلسطينيّي ١٩٤٨ على رؤية المسألة بشموليّةٍ أكبر.
وفي الخلاصة: لا أحد يُنْكر على فلسطينيي 48 حقّهم في التواصل مع محيطهم العربيّ؛ لكنّ هناك ألفَ طريقةٍ وطريقة للتواصل من دون أن نكون أداةً للتطبيع. وهناك حاجة دائمًا إلى الفحص والتحقيق قبل دعوة أو استقبال الأعمال الفلسطينيّة، ليس لأنّ الفلسطينيين خونة، بل لأنّ التعاطي الجارف معنا، من دون ضوابط، يُضرّ بقضيّتنا. وهذا ثمنٌ ندفعه كفلسطينيين ــــ ولا مشكلة في ذلك، لأنّه زهيدٌ أمام تضحيات شعبنا.
ألمانيا / فلسطين