شهد لبنان في بداية صيف العام 2015 انتفاضةً شبابيّةً مدنيّةً على خلفيّةِ تفشّي النفايات في معظم شوارع لبنان، بعد أن وصلت السلطةُ مجدّدًا إلى ما لم يعد ممكنًا أن تخفيَه، ألا وهو مأزقُها البنيويُّ نفسُه، وهو أيضًا مأزقُ النظام السياسيّ برمّته منذ تشكلّه عمومًا، واحتدامِ أزمته منذ العام 2005 خصوصًا. فبعد أن حاولتْ أحزابُ السلطة إعادةَ إنتاج النظام الطائفيّ المأزوم، ولا سيّما في العام 2008 عندما اجتاحت قوى 8 آذار (وعلى رأسها حزبُ الله) العاصمة بيروت، ونقلت الهيمنة المذهبيّة على مفاصل السلطة داخل الطائفة الواحدة، وصلتْ تلك الأحزابُ إلى حائط مسدود، إذ لم تستطع إخفاءَ أزمة النظام التي لم يعد بالإمكان علاجُها موضعيًّا.
فالنظام في لبنان نظام طائفيّ. والطائفيّة هي إيديولوجيّة البرجوازيّة اللبنانيّة التابعة: مِن خلالها تقسّم مغانمَ الدولة، وتشتّت غيرَ المستفيدين من النظام بعد تخويفهم بعضهم من بعض، من أجل أن تستفردَ بالدولة ومؤسّساتها، فيصبح الحزبُ/الأحزابُ الأقوى على صعيد الطائفة/المذهب البوّابةَ الأساسَ للعبور إليها وإلى وظائفهاواستثماراتها. وهذا المنطق فتح المجالَ أمام السلطة للتحكّم بمصير الدولة بالمجمل: فحين يتّفق أربابُ السلطة على الصفقة تُسيّر شؤونُ الناس؛ وعندما لا يتفقون يختنق الشعبُ من الأزمات، من الكهرباء إلى المياه وصولًا إلى الأزمة المستفحلة الأخيرة ـــــ أيْ أزمة النفايات.
وأزمةُ النفايات الأخيرة هي السبب المباشر لقيام الحراك المدنيّ. وقد أتى كمرحلة مواجهةٍ ثانيةٍ بعد المواجهة الأولى التي قامت عامَ 2011 تحت مسمّى "حملة إسقاط النظام الطائفيّ،" التي تأثّرتْ بالسيرورة الثوريّة العربيّة عقب تفشّي الأمل بسبب إسقاط الرؤساء بن علي ومبارك وصالح والعقيد القذّافي والانتفاضة المستمرّة على الرئيس السوريّ بشّار الأسد والأسرة الحاكمة في البحرين؛ وهو أملٌ ما لبث أن ضمر لأسبابٍ ذاتيّةٍ تتعلّق بالحراك نفسه (وسنتناولها لاحقًا)، وأخرى موضوعيّةٍ تمثلتْ في قدرة الأنظمة على المناورة وفتحِ مجالٍ للثورة المضادّة وإجهاضِ الحراكات الشبابيّة.
جاءت انتفاضةُ الشباب اللبنانيّ الأخيرة بعد أن فشلت السلطةُ والأحزابُ الحاكمة في التوافق على صفقةٍ عقب انتهاء عقد شركة سوكلين، والتمرّدِ على مبدإ إقامة المطامر، ورفضِ أيّ حلٍّ غيرِ بيئيّ ولا يراعي شروطَ الصحّة العامّة ولا يعيد الأمرَ إلى البلديّات لكي تعالجها كما في مختلف دول العالم. لكنّ الأزمة الأخيرة ما هي إلّا حلقةٌ من سلسلةٍ طويلةٍ من الأزمات، ومنها: الأزمةُ المستمرة في قطاعات الكهرباء والمياه، وأزمةُ السكن، والغلاءُ الفاحش، والهجرةُ المستمرة، وسرقةُ المال العامّ، والرضوخُ لإملاءات المصارف وصندوق النقد الدوليّ، وتبعيّةُ الأحزاب والقوى الطائفيّة اللبنانيّة للخارج، وتفريغُ المؤسّسات والقوانين من مضامينها ــــــ ما أدّى إلى التمديد المستمرّ للمجلس النيابيّ، وإلى عدم قدرة الحكومة على الاجتماع أو الحكم، وشغورِ موقع رئاسة الجمهوريّة، وارتهانِ السلطة القضائيّة للسلطتين التشريعيّة والتنفيذيّة.
ضمور الحراك
قلنا إنّ ضمورَ الحراك الحاليّ لا يعود إلى قدرة القوى الطائفيّة المشكِّلة للنظام على المناورة والقمع فحسب، بل هناك أسبابٌ داخليّةٌ أيضًا أدّت سابقًا إلى ضمور "حراك إسقاط النظام الطائفيّ،" مع إضافة متغيّراتٍ جديدةٍ إلى المعادلة.
ففي الحراك الأول استطاعت الأحزابُ الحاكمة، ولاسيّما تحالفُ 8 آذار، التغلغلَ إلى قلبه وتفريغَه من مضمونه. وقد حصل ذلك بعد أن وقعتْ بعضُ قوى "التغيير" في الأزمات الطائفيّة التي خلقتْها قوى النظام حول عناوين "المقاومة" و"المحكمة الدوليّة" والموقف من الأنظمة العربيّة (وخصوصًا النظام السوريّ). فكأنّ طرحَ "التغيير" لا يحتمل التفكيرَ من خارجِ ما هو معطًى سلفًا، أو كأنّ "العدالة" مطلبُ 14 آذار وحدها و"مقاومة إسرائيل" مطلبُ 8 آذار حصرًا؛ أو كأنّ "العدالة" و"المقاومة"لا يمكن بناؤهما من خارج الشروط المفروضة. وهذا ما أدّى آنذاك إلى طروحاتٍ طفوليّةٍ من قبيل "عدم الانجرار إلى المعركة السياسيّة،" وكأنّ مواجهة النظام البرجوازيّ الذي يعتمد إيديولوجيا طائفيّةً يمكن أن تكون من دون خطاب سياسيّ واضح يحدّد ذاته بديلًا فعليًّا لطرفَي السلطة اللبنانيّة المتمثليْن في قوى 8 و 14 آذار.
في "الحَراك المدنيّ" الأخير، أضيفت مشكلةٌ جديدة. فإلى جانب القوى التغييريّة الفعليّة، والقوى "التغييريّة" المرتبطة (بشكلٍ أو بآخر) بالقوى الطائفيّة، دخلتْ مجموعاتٌ تتّبع منهجيّةً مختلفةً للتغيير، هي منهجيّةُ منظّمات المجتمع المدنيّ، ممثّلةً في مجموعة "طلعتْ ريحتكم،" التي تعمل على قضايا جزئيّةٍ، على اعتبار أنّ الانتصار في معركة النفايات سيفتح أمامنا معاركَ جديدةً، وسيعيد الأملَ إلى الشارع، بحيث يحيل أحلامَ الناس إلى إمكانيّةٍ تغييريّة. هكذا بدت الأزمة، في خطاب منظّمات المجتمع المدنيّ، أزمةَ نفاياتٍ فقط، وبدت أزمةُ النفايات منفصلةً عن أزمة النظام الذي يَسمح بهذه الممارسات.
هذه المنهجيّة التي اعتمدتْها منظّماتُ المجتمع المدنيّ زادت الطينَ بلّةً، إذ كان هناك تفاوتٌ عميقٌ بين القوى التي أتت من "حراك إسقاط النظام الطائفيّ" سنة 2011، ولاحقًا بين هذه القوى وقوى المجتمع المدني. وهذا التفاوت انعكس منهجيّاتِ عملٍ مختلفةً بين المجموعات، على الرغم من أنّ الجميع حاول المحافظة على شكلٍ للحراك أوّليٍّ ومركزيٍّ وغيرِ منقسم. إلّا أنّ مجموعات المجتمع المدنيّ استغلّت ذلك لتعتمد سياسة "أنا القائد وأنتم التابعون."
كانت لهذه السياسة نتائجُ كارثيّة. فمجموعاتُ المجتمع المدنيّ كان همُّها الأساسُ استبعادَ قوى "اليسار" بمجملها، بدعوى أنّ هذه الأخيرة أسقطتْ قراءاتِها "الإيديولوجيّة" على الحراك، الأمرُ الذي سيستعدي (في رأي تلك المجموعات) الكثيرَ من الناس. لذا حاولتْ بعضُ مجموعات المجتمع المدنيّ الالتفافَ على الاجتماعات التنسيقيّة بين قوى الحَراك المختلفة؛ وهذا ما استدعى، في المقابل، تفرّدَ مجموعاتٍ أخرى، مثل "بدنا نحاسب،" بنشاطاتها (رغم مشاركتها في التحرّكات المركزيّة)، واستدعى السلوكَ نفسَه من المجموعات الأخرى، مثل "جايي التغيير" و"شباب 22 آب" و"الشعب يريد" (والأخيرة تحمل منفردةً خطابًا سياسيًّا بديلًا كاملًا متكاملًا)... هذا من دون أن ننسى المجموعات التي تمتدّ بين "طلعتْ ريحتكم" والمجموعاتِ اليساريّة، ومنها تلك التي كان همُّها الأساسُ رفدَ الحراك بمجمله (مجموعة "عالشارع")، أو تلك التي كانت أقربَ إلى "طلعتْ ريحتكم" (مثل مجموعتَي "الدولة المدنيّة" و"الحركة البيئيّة").
مستقبل هذاالحَراك وكلّ حَراك
كلّ هذه الأخطاء لم تؤدّ إلى موت الحَراك تمامًا. ولا يعود ذلك إلى أسبابٍ ذاتيّةٍ بالضرورة، بل لأنّ السلطة لم تأتِ بأيّ حلٍّ لأيّة مشكلة... لا بل اعتمدتْ ممارساتٍ بوليسيّةً، بحيث راحت تلاحق الناشطين وتوقفهم إذا ما تفوّهوا بأيّ كلامٍ يَتّهم مكوّناتِها بالمجمل أو بشكلٍ فرديّ.
هذه الممارسات، والمآزقُ الفعليّة المتفشّية في كلّ حين، هي التي ستعيد إنتاجَ الحراك فعليًّا؛ ذلك لأنّ النقمة الشعبيّة على القوى المتحكّمة بمفاصل البلاد في تزايدٍ مستمرّ. لكنْ لا يمكن التكهّنُ باللحظة التي ستعيد إحياءَ الحركات الاعتراضيّة (على الرغم من أنّ تحرّكاتٍ جزئيّةً صغيرةً ما زالت مستمرّة). ولا بّد من أن يُستكمل الأمرُ بعمليّة بناء قوى التغيير نفسها، وباعتماد منهجيّة عملٍ جديدةٍ مختلفةٍ، لا تُشتّت بل تجمّع.
على أنّ مطلب "التجميع" لا يعني التسطيح، ولا يعني خفضَ السقف السياسيّ للمطالب التغييريّة بحيث تتعبّد الطريقُ أمام القوى الطائفيّة كي تقفزَ فوق الحراك وتسيّرَه كيف شاءت. لا بل إنّ مطلب "تجميع الناس" لا يمكن أن يكون من دون خطابٍ مختلفٍ عن خطاب السلطة، كمًّا وكيفًا. غير أنّ التجميع يبدأ بإعادة بناء الثقة بين مكوّنات المجتمع اللبنانيّ، بعد أن عملت الأحزابُ الطائفيّةُ المهيمنة على تحطيمها من أجل أن تسود. لكنْ كيف يمكن بناء هذه الثقة؟
هوذا السؤالُ الأساسُ الذي يتوجّب على قوى "التغيير" أن تجيب عنه. ومن أجل هذه المهمّة لا بدّ من العمل على عدّة خطوات:
ــــ الأولى: الالتزام بالمطالب الجزئيّة المباشرة التي اعتمدتْها قوى المجتمع المدنيّ.
ــــ الثانية: تسير بالتوازي مع الخطوة الأولى، وتستكملها ببناء رؤيةٍ متكاملةٍ للبديل السياسيّ المفترض، بحيث يكون كلُّ مطلبٍ اجتماعيٍّ انعكاسًا لمطلبٍ سياسيٍّ بنيويّ.
ــــ الثالثة: التواصل مع مجمل النقابات، ومع مختلف المناطق (وهو ما حدث بالفعل مع تحرّكات "برجا" و"عكّار" و"الناعمة"). ومن دون هذا التواصل لن يكون لأيّ حراكٍ مستقبليّ أيُّ أمل.
***
على الحراك أن يعتمد منهجيّةَ عملٍ متحرّكةً، وأن يكون جاهزًا لكلّ الاحتمالات، وأن يشكّل البديلَ الفعليَّ الذي يعالج المشاكلَ بكليّتها من خلال رسم حدود الفصل مع القوى الطائفيّة المهيمنة. فالمطالب الاجتماعيّة تجذب الأفرادَ والمقيمين لأنّها مطالبُهم المباشرة، وتعيد بناءَ الثقة بين مكوّنات المجتمع؛ أما المطالب السياسيّة فتحمي مطالبَ الشعب المباشرة تلك، لا بل تعوِّق إمكانيّة الفساد ومفاتيحَه المنتشرة في المنظومة القائمة، وتفتح الطريقَ أمام المحاسبة، وأمام الانتقال من النموذج الطائفيّ للتوظيف (الكوتا) إلى نموذج الكفاءة ("الشخص المناسب في المكان المناسب"). وهذا يعني أنّ التغيير الفعليّ للنظام الطائفيّ القائم لن يكون إلّا من خلال نظامٍ علمانيّ شامل يقوّض الممارسة المستندة إلى الإيديولوجيا الطائفيّة، ويحمي المؤسّسات إذ يبنيها على معايير الكفاءة لا على معايير الكوتا التي تفتح المجالَ أمام التدخّلات السياسيّة والطائفيّة ــــــ بدايةً من أصغر وظيفة في الدولة، وصولًا إلى تشكيل السلطة، ومرورًا بالهيئات التمثيليّة والتشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة.
بيروت