في قراءتنا للمشروع السوسيوثقافيّ التي اشتغلتْ عليه فاطمة المرنيسي، لم نجد بنيةً معرفيّةً جماليّةً ودلاليّةً مناسبةً لهذا المشروع إلّا بنيةَ الاشتغال على ما هو ثابت، مثل "سؤال المرأة،" الذي يُعدّ مدخلًا رئيسًا لهذه البنية .
ففي حياة هذه المثقفة التنويريّة نجد مسارَ النقد النسائيّ الغربيّ متمثّلًا في ثلاث مراحل: الأولى فيها محاكاةٌ للقيم الجماليّة السائدة، والثانية فيها طموحٌ إلى المساواة، والثالثة تُمثّل وعيَ المرأة بذاتها وقدراتها. ولقد ظلّت "شهرزادُ النقد الثقافيّ النسائيّ" تقدّم صورةَ المرأة الثائرة الغضوب، مقتحمةً حقلَ الماضي، معيدةً النظرَ في بعض الخطوط والملامح المنسوبة إليه، مضيئةً جوانبَ يجري التعتيمُ عليها اليوم. ويكمن "تنويرُ الماضي" في طرح الأسئلة والنظرات الجديدة، التي تستطيع تبيانَ المحتكَر فيه، الذي هو منتوجُ طبقةٍ معيّنةٍ من الرجال. واحتكارُ الماضي يعني احتكارَ الحقّ في تقديم صورته، أيْ في إبراز الجوانب التي ترضي هؤلاء الرجالَ، والتعتيمِ على جوانب تنفي حقّهم في الاحتكار.
***
تُعدّ إشكاليّةُ الحريم التي تجرّأت المرنيسي على معالجتها من الإشكاليّات التي استطاعت هذه المثقفة التنويريّة توضيحَ الغامض فيها، وتصحيحَ التأويل الخاطئ المهيمن عليها. والنتائج التي توصّلتْ إليها، في كتابها هل أنتم محصّنون ضدّ الحريم؟، كانت بمثابة صاعقةٍ معرفيّةٍ لدى الباحثين والعلماء ورجالِ الدين، وهي عبارةٌ عن مجموعة من الأفكار المتميّزة، منها:
- أنّ الارتباط العضويّ بين الغزو العسكريّ وعبوديّة النساء شكّل ثابتًا بالنسبة إلى كلّ ثقافات الحريم: اليونانيّة، والرومانيّة، والإسلاميّة ـ التركيّة.
- لم يرتبط الحريمُ بمجيء الإسلام، بل تأتّى مع ثقافات سابقة عنه، كالمنظومة الاجتماعيّة الرومانيّة واليونانيّة.
- استمرار الحلم بالحريم يسيطر على الإنسان الغربيّ كذلك، رغم ثوراته الاجتماعيّة الكبيرة. لكن واقعه السوسيوثقافي يحُول بقوة بينه وبين كلِّ تبلورٍ موضوعيّ لهذا الهوس.
***
ظهرتْ كتاباتُ المرنيسي لتدمير الثابت في الثقافة الذكوريّة عن المرأة، مثل: المرأة الشيء، والمرأة الدونيّة، والمرأة المثال، والمرأة الرمز... لصالح بناء نموذج المرأة الإنسان.
والمتفحّص في منظور المرنيسي للخلفيّات التي شكّلت المرأةَ في صورة جنسٍ ضعيفٍ، سلعيِّ، جماليٍّ، شريرٍ، مقدّس، الخ... يجد أنّها خلفيّاتُ المجتمعات الذكوريّة نفسها، وهي خلفيّاتٌ انطلقتْ، في مجملها، من تهميش المرأة وتشييئها لصالح بناء شخصيّة الرجل وتسييدِه على الطبيعة والمرأة معًا. فتكون المرأة بذلك معرّضةً لـ "ثلاثيّة اغترابيّة هي: العبوديّة الجنسيّة، حيث تتحوّل المرأةُ إلى جسدٍ لمتعة الرجل، والعبوديّة الاقتصاديّة التي تشير إلى استغلال المرأة في مجال الإنتاج والعمل، وأخيرًا العبوديّة المنزليّة التي تكون فيها المرأةُ مجرّدَ أداةٍ لخدمة الرجل والأطفال في إطار الحياة المنزليّة."(1)
***
تعرّضت المرنيسي، منذ سنوات، في كتاباتها للحيْف الذي يلحق بالمرأة المغربيّة من جرّاء تصنيف أغلبيّة النساء في خانة "غير النشيطين." وهذا ما يجعل مشروعَها النقديّ يدخل ضمن سياق النقد النسائيّ الغربيّ، الذي ظهر خطابًا منظمًا في الستينيّات واعتمد على حركات تحرير المرأة. المرنيسي في هذا المجال تشبه، في بعض أطروحاتها الاجتماعيّة والإبداعيّة، فرجينيا وولف، التي اتّهمت العالمَ الغربيّ بأنه مجتمعٌ أبويّ منع المرأةَ من تحقيق طموحاتها الفنيّة والأدبيّة، إضافةً إلى حرمانها اقتصاديًّا. وهي تشبه سيمون دو بوفوار، التي تزعّمت الحركة النسائيّة حينما أصرّت على أنّ تعريف المرأة ينبع دائمًا من ارتباطها بالرجل، فتصبح "آخرَ" (موضوعًا) يتّسم بالسلبيّة، بينما يكون الرجلُ ذاتًا سِمَتًها الهيمنةُ والرفعةُ والأهميّة. وهي تشبه جوليا كريستيفا، التي تُعدّ من روّاد النظريّة النسويّة، والتي قدّمتْ سنة 1986 دراسة عن النقد الأدبيّ النسويّ أوضحتْ فيها ضرورة المساواة بين المرأة والرجل في الصور والشفرات والعلامات والدلالات التي تتجلّى في الآداب والفنون، وفي غيرِها من النظم التي تصوغ العقول ووجهاتِ النظر، وتصوغ من ثم السلوكَ تجاه الآخر في المجتمع.
***
في بداية التسعينيّات تخلّت المرنيسي عن النسويّة لتكرّس نفسَها في نشاطين أساسيين: كتابة الرواية، وتدعيم المجتمع المدنيّ في المغرب. وهي تَعتبر أنّ الكتابة هي المحرّكُ الأساسُ للوعي المدنيّ. وقد مارستْ، بصفة تطوعيّة، إدارةَ العديد من ورشات الكتابة للملتزمين والملتزمات. وكان هذا النشاط يغطّي محاورَ مختلفة، ذاتَ مساس بواقع المواطنات والمواطنين: كالتنمية الريفيّة، والتعدديّة الثقافيّة، وحقوق الإنسان، والعلاقات بين الجنسين، والاعتداءات الجنسيّة على الأطفال. وقد رأت المرنيسي في "الكتابة المتحوّلة" وسيلةً تعبيريّة، وفي الوقت ذاته،غايةً تثبت بها مشروعيةَ مطلبها في مساواة المرأة بالرجل في الحقوق والواجبات. ويتمثّل "المتحوّل" في الكتابة المرنيسيّة في الكشف عن تغلغل التصوّر الذكوريّ في المنظور الثقافيّ والدينيّ والاجتماعيّ، وسيطرته عليه، مع كلِّ ما ترتب على ذلك من نفيٍ للمرأة، وانتهاكٍ لأبسط حقوقها.
لقد ظلّت المرنيسي تردّد أنّ تفسيرات الأديان، وتحريفاتها التي عمّت في ما بعد، أعادت استلابَ المرأة كما كان حالها في الأساطير والخرافات ومجتمعات الظلم والجاهلية، بل ربما أسوأ أحيانًا. فعلى الرغم من كون الأديان جاءت لتصحيح المسارات الأسطوريّة والجاهليّات المختلفة التي جسّدتْ دونيّة المرأة، فإنّ ما شاع في الأعراف والأدبيّات، وما ساهم به الوضعُ الإنتاجيّ للمرأة ، أدّيا إلى أن تبقى صورُ المرأة النمطيّة السلبيّة متجذّرةً في الوعي الذكوريّ. فكانت الدراسات التراثيّة العربيّة عن المرأة، كما يقول علي زيعور: "لا تعني بالمرأة مدلولًا واعيًا، أو الأنا الواعيَ في الإنسان، [بل] إنّها تعني ما نسقطه على الشيطان: إنّها الشيطان في مدلولاته التي تكشف عن اللاوعي والمكبوت والمعتم، وإسقاط النزوات العدوانيّة والآثمة والإغرائيّة عليها."(2)
***
وفي الختام، يمكن القول إنّ المرنيسي، بجاذبيّاتها التراثيّة والحديثة والمعاصرة، من ابن رشد إلى قاسم أمين إلى نصر حامد أبي زيد إلى نوال السعداوي، ناصرت المدرسة التأويليّة التي تبحث عن قراءة المكوّنات الثابتة قراءةً جديدةً تنبني على التخلّي عن "العقم الثقافيّ المتطرف" الذي يقف عائقًا دون التحرر. وقد استطاعت أن تسهم في تأسيس النظريّة النقديّة النسائيّة العربيّة التي خلخلت الرؤى والأحكامَ الموروثة، وعزّزتْ مساءلة "النهائيّات" الثقافيّة والسياسيّة والدينيّة، وفتحتْ في الوقت نفسه أفقًا جديدًا.
المغرب
هوامش:
- حسين المناصرة، "وعي الذكورة والمرأة،" مجلة فصول، ربيع 2005، ص185.
2-علي زيعور، اللاوعي الثقافيّ ولغة الجسد والتواصل غير اللفظيّ في الذات العربيّة (بيروت: دار الطليعة، 1991)، ص 41،42.