سنة بالتمام مضت على انبعاث الآداب إلكترونيًّا. في الخامس عشر من تشرين الأول 2015 ظهر الإصدارُ الإلكترونيُّ الأوّل، وافتُتح بعنوان "ما يمْكث في الأرض ويحلِّق نحو السماء."(1)
يومها، قال سماح إدريس ــــ بجدّيّةِ رئيسِ التحرير ــــ ما يجب أن يُقال عن هذه المجلّة الإلكترونيّة، وعن مشروعها المستكمِلِ لعهديْن ورقيّيْن سابقيْن: عهدِ المؤسِّس الدكتور سهيل إدريس بين العامين 1953 و1992، وعهدِ سماح بين العاميْن 1992 و2012. وحاول أن يستوعبَ غصّةَ حرمانِ قرّاءِ الآداب عتاقةَ الورق وعبقَ الحبْر، وأن يقول إنّ الآداب ماكثةٌ في الأرض:
"قوّةً متقدّمةً في بناء وعيٍ نقديٍّ متحرّك، وذائقةٍ أدبيّةٍ وفكريّةٍ لم تلوّثْها رياحُ الاستهلاك أو روائحُ النفط والغاز والطائفةِ والمذهبِ والعنصريّة. وستكون كما عهدتموها: مقاوِمةً جذريّةً للعدوّ الإسرائيليّ... متصدّيةً لأشكالِ الظلم الاجتماعيّ والسياسيّ والجندريّ كافّة، حريصةً على تجديد أساليب الكتابة العربيّة، مسهِمةً في تشييدِ ما أمكنَ من أشكال التكاملِ العربيّ، ساعيةً إلى الحداثة بما يتلاءمُ وحاجاتِ مجتمعِنا العربيّ... غزيرةً، متنوّعةً، ضاجّةً بالحياة؛ طاقةً من التفكير الدائم في البدائل التي تتجاوز ما تطرحُه "قوى الأمر الواقع" ـــ نيوليبراليّةً كانت، أو مستبدّةً، أو أصوليّة؛ مَوْقعًا للكلمة النظيفة المستقلّة؛ نموذجًا عن التحرير المتقَنِ، واللغةِ المتينةِ والرشيقةِ في آنٍ واحد..."(2)
وها قد مضت سنة.
***
معظمُ ما وَعدْنا به نفّذْناه. والقليلُ منه لم ننفّذْه، لكنّنا لم ننكثْ بالوعد؛ فـالآداب حافظتْ على هويّتها المستقلّة ولم تستسلمْ لإغراء الالتحاق بمعسكراتٍ جاهزة، مع ما في هذا الالتحاق من مغرياتٍ تبدأ بالدعم المادّيّ المباشر، ولا تنتهي عند تأمين "الحشود المليونيّة" الجاهزة للتصفّح والمتابعة، وما إلى ذلك من مصطلحات سوق الإنترنت.
أرقامُنا قد تبدو متواضعة حاليًّا قياسًا إلى أرقام الشبكة. لكنّها بالنسبة إلينا أرقامٌ حقيقيّةٌ تعود إلى أناسٍ حقيقييّن ومهتمّين.
يبلغ متوسّطُ عدد زوّار الموقع حوالى خمسين ألف زائر مختلف شهريًّا. أكثرُ من ثلثهم يكرّرون تصفّح الموقع غيرَ مرّة. وهم يتصفّحون ما معدّلُه مائة ألف صفحة ضمن هذه الزيارات. والحال أنّ أسوأ قراءةٍ لهذه الأرقام تفيد بأنّ خمسين ألف قارئ، من البلاد العربيّة ومن خارجها، يقرأون مادّتيْن من موقع الآداب على الأقلّ شهريًّا. وهذا يأتي، كما تعلمون، في خضمّ حالةٍ متناميةٍ من الكسلِ والجهلِ والتبعيّة.
ليست مجلّة الآداب إمبراطوريّةً إعلاميّة، ولا تقف خلفَها منظومةٌ حاضنة، ماديّة أو حزبيّة أو نظاميّة أو أنجزيّة (من NGOs). ببساطة هي الآداب: الرأي، والموقف، والبوصلة التي لا تحيد عن دمج المبادئ الوطنية والقوميّة بالمبادئ الإنسانيّة والتقدّميّة. وهي أيضًا الإبداعُ، واللغةُ التي تحترم قرّاءَ اللغة العربيّة، والإخراجُ الأنيقُ المريحُ للنظر. ولذلك، فإنّ الخمسين ألفًا هؤلاء هم فخرُنا في زمن التراجع الثقافيّ والقيميّ العربيّ، لأنّهم قرّاءٌ يختارون قراءاتهم بأنفسهم، برغبتهم، بموقفهم، بعيدًا عن الأضواء الخلّبيّة، والذائقة المقصوفة بالإعلانات المدفوعة، والتجييشِ الطائفيّ والعشائريّ والغرَزيّ.
قرّاءَنا الآدابيّين: نفْخر بكم، ونراقب نموَّكم معنا كلّ يوم، بفرحٍ ونشوة.
***
ثمّة آدابيّون آخرون، هم الكتّاب. وهؤلاء لم يفقدوا ثقتهم بمجلّتهم بعد أن دخلتْ طورَها الإلكترونيّ. منهم المخضرمون، ومنهم المحترفون، ومنهم البادئون جلجلةَ الكتابة للتوّ. وهم مَن يساعدوننا، في أيّام التعب والإرهاق، على مواصلة هذه المغامرة القاسية الرائعة.
نقدّم لهم الصدقَ، والموقعَ الذي لا يحيد عن ثوابته ولا يَدْخل في سوق الشراء والبيع. ونقدّم لهم العناية الدقيقةَ بنصوصهم، ونلاحق تفاصيلها، ونقابل شغفَهم في كتابتها بشغفٍ لا يقلّ اضطرامًا في تحريرها وإخراجِها وتدقيقِها.
لا ندّعي الكمالَ؛ فقد نقع في النسيان أو السهو أو التقصير، لأنّ الضغط أكبرُ من قدرة طاقم العمل المتواضع. نحاول الاستدراكَ حين ننتبه أو نُنبَّه، ونتعامل مع الكتّاب بوصفهم جزءًا من المشروع وامتدادًا له. ولأنّني شخصيًّا مكلّفٌ بمتابعة سيْر الموقع الإلكترونيّ، فإنّني أقدّم اعتذاري إلى كلِّ مَن قصّرتُ في حقّه؛ فحين تتعامل مع أكثر من خمسين إيمايلًا يوميًّا فعليكَ أن تقرّ بأنّك في طريقك مجانِبٌ للكمال.
بجهود هؤلاء الكتّاب قدّمْنا، في سنةٍ واحدة، ملفّاتٍ مهمّةً: في الأدب والتاريخ والفكر والسياسة والتربية وغير ذلك. ونشرنا عشراتِ المقالات البالغةِ الأهمّيّة. وأشرعنا البابَ أمام التجارب الشعريّة، والنصوصِ الإبداعيّة، والشهادات الشخصيّة التي قدّمتْ صورًا صادقةً وحميمةً عن مشاكلَ اجتماعيّةٍ مختلفة. وأولينا الترجمات الأدبيّة والفكريّة والنقديّة اهتمامًا خاصًّا. وكانت القصّة القصيرة مصدرَ فخرٍ خاصًّا لنا لأنّه يضعنا في طليعة العرب المهتمّين بإعادة هذا الجنس الأدبيّ إلى صدارة الإبداع العربيّ الحديث.
كتّابَنا الآدابيّين: أنتم شعاعٌ في آخر هذا الظلام المهيمن على مساحة الوطن العربيّ الكبير.
***
سنة إذًا من "ألكترنة" الآداب، عمل خلالها مطوّرو الموقع حثيثًا لكي يخرج بهذا الشكل والتنظيم. وفي المقابل، فتحنا قلوبَنا لكلّ ملاحظة أو نقد، ولاستكشاف قدراتِ النشر الإلكترونيّ الكامنة.
قسّمْنا المواضيع إلى "إصدارات." هكذا بات يمكن تصفّحُ موادّ المجلّة انطلاقًا من النوع الأدبيّ، أو الملفّ، أو اسم الكاتب، أو الإصدار الذي يضمّ مجموعَ الموادّ التي نُشرتْ دفعةً واحدةً وكأنّها عددٌ ورقيّ. وأضفنا زرَّ الطباعة، الذي يسمح بحفظ المادّة بصيغة بي. دي. أف.
أمّا الأرشيف فشكّل الهاجسَ الصامتَ بالنسبة إلينا. فلم نكتفِ بالمباشرة في إعادة نشر كلِّ ما صدر عن مجلة الآداب منذ بدايات خمسينيّات القرن الماضي ــــ وهو عملٌ آثرْنا أن نبعدَه عن أيّة معونةٍ رسميّةٍ أو غير رسميّة عربيّة ــــ بل قمنا أيضًا بتضمين إعادة النشر هذه "حِيلًا" إلكترونيّةً تقدِّم للباحث في الأرشيف كلَّ عناصر المساعدة. فالعناصر البحثيّة (Meta Data)، التي جمعها مركزُ التوثيق في مكتبة يافث في الجامعة الأميركيّة في بيروت، ومن ثمّ عملَ فريقُ المجلّة على مراجعتها وتغذيتها بعناصرَ إضافيّة، كلُّها جُمعتْ وصارت في تصرّف الباحث في الأرشيف. ومع الإصدار الثامن عشر هذا، نكون قد نشرنا أرشيفَ أعداد الآداب من العام 1953 حتّى العام 1971، وسنمضي في إعادة نشر ما تبقّى حتّى آخر إصدار ورقيّ طُبع، نهاية العام 2012.
***
قد لا يعني مرورُ سنةٍ على انبعاث هذا المشروع شيئًا؛ فهي سنةٌ جديدةٌ من سنواتٍ ستليها. وهو مشروعٌ سيُستكمل بشقّيه. الشقّ الأوّل هو وضعُ الماضي الثقافيّ "الآدابيّ" أمام الأجيال الجديدة، والدفعُ باتّجاه إعادة القراءة والتحليل، بعيدًا عن الدونيّة الحضاريّة والهجس بتفوّق "الآخر." والشقّ الثاني هو الاستمرار بالصدور، حاملين معنا هواجسَ أناسِ هذا الوطن الكبير، وأحلامَهم، ولغتَهم وأساليبهم التي لا نكلّ عن مواكبتها وتطويرها.
وبذلك كلّه تتمظهر الآداب جزءًا من المقاومة التي يخوضُها إنسانُ هذه المنطقة المنكوبة: ضدّ الاحتلال الإسرائيليّ، وضد الاحتلالات الظاهرة والمقنّعة على امتداد الأرض العربيّة، وضدّ السلطات الجائرة، وضدّ استغلال الدول "العظمى" للدول الفقيرة؛ ومن أجل التحرير والحريّة الشاملين.
ولأنّنا نعرف أنْ لا تحليقَ ثقافيًّا مستديمًا في السماء بلا جذورٍ راسخةٍ في الأرض، فقد قرّرت الآداب أن تَرْفد مسيرتَها الإلكترونيّةَ الجديدة بمسيرتها الورقيّة القديمة: فتعْمد إلى إصدار عددٍ ورقيٍّ سنويٍّ ضخم، فيه مختاراتٌ ممّا نُشر خلال السنة في الموقع الإلكترونيّ. وسيكون الإصدارُ الورقيّ الأوّل جاهزًا في أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، وذلك مع انطلاقة معرض بيروت للكتاب العربيّ.
***
مجلةّ الآداب أنشأتْ دارَ الآداب، ودارُ الآداب التي نشأتْ بعد المجلة بثلاثة أعوام (1956) تردّ "الجميلَ" لأمّها منذ ذلك الحين. من هنا الشكرُ الدائمُ للقيّمين على هذه الدار لاستمرار إيمانهم بمشروعٍ ثقافيٍّ حضاريٍّ بحت، لا يُنتج لهم فلسًا. كلّ الشكر ــــ مجدّدًا ــــ للعاملين في مكتبة يافث في الجامعة الأميركيّة في بيروت. وكلّ التقدير للزميل أحمد قمح، ولفريقه في شركة بوستراي، وللسيّدة جويس صوايا، مطوِّرةِ الصفحة. كلّ الاحترام لمراسلَي الآداب المخْلصيْن: عبد الحقّ لبيض في المغرب، وناريمان عامر في سوريا. كلّ الحبّ لكتّاب الآداب وقرّائها، والأصدقاء الناصحين.
في بداية هذه الافتتاحية تحدّثتُ عن "جدّيّة" سماح إدريس. أستغلُّ الموقفَ هنا لأقولَ إنّ لهذا الرجل ابنتيْن في البيت، وواحدةً في المكتب. ابنتا البيت الجميلتان كبرتا وانطلقتا إلى أكبر الجامعات. لكنّ ابنةَ المكتب، مجلّةَ الآداب، مازالت تحت رعايته، يحنو عليها كلّما عتقتْ، ويمدّها بالعزيمة كلّما هرمتْ. هي ابنتُه الثالثة التي لا يملّ السهرَ عليها بلهفةٍ لا تخفيها جدّيّةٌ رئيس تحرير أعرقِ مجلةٍ أدبيّةٍ وثقافيّةٍ مستقلّة.
بيروت
1- https://goo.gl/Z7YlwS
2- المصدر السابق.