أستاذ باحث، مراسِل مجلّة الآداب في المغرب.
حوار مع البروفيسور عبد القادر الفاسي الفهري: الفصحى، اللهجات، الفرنسيّة، الأمازيغيّة
الجزء الثاني منشور في نهاية الجزء الاوّل هنا:
أدارها: عبد الحق لبيض (مراسل الآداب في المغرب). المساهمون:
أحمد كافي: أستاذ جامعيّ، وفاعل مدنيّ.
أحمد ويحمان: رئيس "المرصد المغربيّ لمناهضة التطبيع."
جمال بندحمان: أستاذ جامعيّ وعضو المكتب التنفيذيّ لشبكة الديمقراطيين العرب.
الحسين أيت باحسين: عضو "الجمعيّة المغربيّة للتبادل الثقافيّ (أمازيغيّة)."
رشيد الإدريسي: أستاذ بجامعة الحسن الثاني، الدارالبيضاء. دكتوراه في مناهج النقد الحديث.
عبد الغني عارف: رئيس "مركز أجيال 21 للثقافة والمواطنة."
أمين الكوهين: باحث في التاريخ.
عبد الحقّ لبيض: الهويّة، بحسب ابن سينا، هي "معرفةُ الذات بالذات." والإقرار بمبدأ الهويّة إقرارٌ بارتباطاتها بالتاريخ والمجتمع؛ وهو ما يقودُنا إلى الإقرار بمبدأ التنوّع والتعدّديّة على اعتبار أنّ التاريخ دائمُ المدّ والجزر، وقائمٌ على الانصهار وإعادة البناء و"التهجين."
مثّلتْ مسألةُ الهويّة جزءًا أساسًا من بنية الفكر السياسيّ المعاصر في العالم برمّته. وبدأتْ في عالمنا العربيّ منذ فجر بناء الدولة الوطنيّة، التي ورثتْ عن الدولة العثمانيّة العديدَ من ولاياتها، والتصق ذلك بتصوّر عناصر النقاش الوطنيّة والقوميّة والإسلاميّة والإنسانيّة لبناء الدولة الحديثة. لذلك ظلّت الهويّة مرتبطةً بمقوِّميْن أساسيْن في تشكّل ملامحها، الدين واللغة، باعتبارهما المحدِّديْن المركزيّيْن للهويّة العربيّة.
اليوم، نعيش انقلابًا في المفاهيم، أفضت إليه التحوّلاتُ العميقةُ في بنية الفكر الإنسانيّ، وذلك مع بروز الجيل الثالث من الحقوق الفرديّة والجماعيّة، واعتلاءِ مفاهيم كالعدالة والمساواة منصّة النقاش الكونيّ. وقد ترتّبتْ على ذلك إعادةُ رسم "الجغرافيا الهويّاتيّة" ضمن مقاربةٍ أشمل لمبدأ الديمقراطيّة وحقوق الإنسان. لذلك فإنّنا مدعوّون إلى مزاولة التفكير الجدّيّ في مسألة الهويّة المغربيّة، وإعادة التفكير في عناصر تشكّلها التاريخيّة، وتحسّسِ مَواطن التفاعل والتنافر والتعايش والتنابذ بينها؛ مشخّصين أسباب ذلك بعيدًا عن القوالب الإيديولوجيّة الجاهزة.
نقترح للمناقشة المحاورَ الآتية:
أوّلًا: تاريخيّة التفكير في الهويّة المغربيّة: أ) هل شكّلت الهويّة المغربيّة، على مدار تاريخ المغرب، سؤالًا إشكاليًّا، أمْ أنّ التفكير فيها مستحدثٌ بفعل التطوّرات السياسيّة والحقوقيّة الكونيّة، بدءًا من العقد الأخير من القرن العشرين؟ ب) هل الهويّة المغربيّة معطًى ثابت، أمْ عنصر متحوّل خاضع لشروط التغيير التي تحكم سننَ الوجود الإنسانيّ؟ ج) كيف تعامل المغاربة طوال تاريخهم مع تجلّيات الهويّة المغربيّة؟ د) إذا كانت الهويّة المغربيّة عبر تاريخها العميق شكلًا متعدّدًا، فما هو اللاحم الأساس لعناصر التعدّد؟ ه) كيف يجري التفكير اليوم في مسألة التعدّد في الهويّة المغربيّة؟
ثانيًا: الهويّة وضرورات البناء الديمقراطيّ: أ) مَن يَحقّ له اليوم إطلاق مشروع إعادة التفكير في تشكّل ملامح الهويّة المغربيّة: الدولة أمِ المجتمع؟ وما حدود كلّ طرف؟ ب) هل يمكن التفكير في انتقال ديمقراطيّ حقيقيّ في ظلّ احترابٍ هويّاتيّ؟ ج) ما هو موقعُ الهويّة المغربيّة في ضوء النقاش حول المعاهدات الدوليّة الخاصة بالحريّة الجنسيّة وحريّة المعتقَد؟ د) هل البناء الديمقراطيّ أسبقُ على الهويّة، أم العكس؟
ثالثًا: مستقبل النقاش حول الهويّة في المغرب في ضوء المتغيّرات الإقليميّة والدوليّة: أ) هل سيؤثّر التحوّلُ الإقليميّ والدوليّ في مسار النقاش العموميّ حول الهويّة المغربيّة؟ ب) هل يمكن أن تؤثّر الظروفُ العصيبة التي تمرّ بها بعضُ الدول العربيّة في طبيعة النقاش الهوياتيّ في المغرب؟ ج) مَن يَضمن، في مغرب اليوم، نجاحَ اللحمة المجتمعيّة في أفق الانفتاح على الأسئلة المصيريّة لمسألة الهويّة؟
عبد الغني عارف: انطلقت الأرضيّةُ التي قدّمتم بها لهذه الندوة من سؤالٍ أساس: هل لسؤال الهويّة راهنيّةٌ اليوم؟ من جانبي، أرى أنّ لموضوع الهويّة راهنيّتَه الكبرى في ساحة النقاش. وسأحاور هذه الأرضيّة انطلاقًا من نقطتين:
أوّلًا، اتّفق مع ما جاء في موضوع "الجغرافيا الهويّاتيّة،" التي أعتقد أنّها تبدّلتْ بفعل عوامل متداخلة تجعل، اليوم، من مُعطى "الهويّة" أرضيّةً تُخترق بقوّةٍ، إلى حدٍّ يجعلنا نتساءل عن إمكانيّة الحديث عن هويّةٍ قائمةٍ بذاتها. ثانيًا: النقطة التي أثارت انتباهي في الأرضيّة هي التساؤلُ ما إذا كان حديثنا عن الهويّة اليوم تعبيرًا عن أزمة نعيشها في واقعنا، أم أنّ الأمر لا يعدو أن يكون تعبيرًا عن وعيٍ نخبويّ بضرورة الخروج من نفق هذه الأزمة المفترَضة؟
أختتم هذا التدخّل الأوّليّ لأشير إلى أنّ اختيارَ الموضوع كان شاسعًا جدًّا، إذ أعتقد أنّ كلّ مكوِّن من مكوّنات هذا العنوان يحتاج إلى تأمّل شامل ومستقلّ: "الهويّة" بجميع ما نتطارحه من إشكالات ومقاربات؛ و"العيش المشترك" في أبعاده السياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة؛ و"مغرب اليوم" وما نعنيه بهذه العبارة (أهو المغرب السياسيّ، أم الاجتماعيّ، أم الحقوقيّ؟ مغرب ما بعد الاستقلال، أمْ مغرب اللحظة التي نعيشها؟)
جمال بندحمان: انسجامًا مع موضوع "تاريخية التفكير في الهويّة المغربيّة،" أطرح نقطًا أساسيّة أعتبرُها توطئةً للنقاش. أوّلًا: عندما نعتبر التاريخ تاريخًا محدّدًا ومعيَّنًا، فإنّنا نصادر النقاش لأنّنا يمكننا أن نعيد في أيّة لحظةٍ قراءةَ هذا التاريخ استنادًا إلى مستجدّاتٍ ووثائقَ موجّهة. ثانيًا: يمكن الحديثُ عن الهويّة من خلال صورتين: الأولى تعتبر الهويّة إطارًا مغلقًا ونهائيًّا ومحدَّد المعالم؛ أمّا الثانية فتعتبرها عمليّةً مستمرّةً من التشييد والبناء، وبالتالي يحقّ لأيّ مجتمع أن يعيد بناءَ مكوّنات هذه الهويّة وفق متطلّباتٍ مستجدّة.
لكنْ، هل الحديث عن الهويّة اليوم نابعٌ من قناعة داخليّة فقط؟ ففي تاريخ المغرب يمكن أن نقف عند محطّتين قريبتيْن أساسيّتيْن: 1) الأولى أثناء مواجهة الحركة الوطنيّة للمستعمِر، حيث كان هناك وعيٌ بشكل الهويّة حتّى من دون أن تسمّيه؛ ودليلُنا إشارةُ الزعيم علّال الفاسي إلى "الإنسيّة المغربيّة." وهذا المنظور كان يشترك فيه الجميع لأنّ الخصم كان خارجيًّا ومهدِّدًا لمكوّنات الهويّة المغربيّة. أسئلة "الهويّة" لم تكن يومها نابعةً من اهتمامات ذاتيّة بقدرِ ما كانت استجابةً لحسّ المقاومة في وجه "الخارج" الذي يسعى إلى تفكيك اللحمة الوطنيّة. ولم يكن علّال الفاسي الممثّل الأوحد لهذا الاتّجاه، بل تقاطع معه الكثيرُ من المثقّفين والروّاد، كعبد الله كنون والمختار السوسي. 2) المحطّة الثانية تمثّلتْ في وجود وعي ثقافيّ لدى نخبةٍ معيّنةٍ في إطار الحركات الأمازيغيّة. وهذا التحوّل، الذي سيطر في تسعينيّات القرن الماضي، جاء مواكبًا لبروز المسألة الثقافيّة عالميًّا، خصوصًا بعد نشر كتاب صامويل هنتنغتون، صِدام الحضارات؛ إضافةً إلى إصدار الأمم المتّحدة وثائقَ قاربت الحقوقَ الثقافيّة واللغويّة، مثل: الإعلان العالميّ للحقوق الثقافيّة (برشلونة، 1996)، وإعلان اليونسكو حول التعدّد الثقافيّ (2001)، واتّفاقيّة باريس حول تنوّع التعابير الثقافيّة والنهوض بها (2005)؛ فضلًا عن تعيين خبيرة أمميّة مستقلّة مهتمّة بموضوع الحقوق الثقافيّة كونيًّا (2009). ومعنى ذلك أنّ هناك سياقًا دوليًّا معيّنًا علينا أن نعيَه بشدّة حتّى تكون الأجوبة التي سنقدّمها منطلقةً من طبيعة أنّ الأسئلة المطروحةَ داخليًّا هي أسئلةٌ مفروضةٌ من سياقات خارجيّة...
لبيض ( مقاطعًا): لكنّ الحركة الأمازيغية في المغرب بدأت منذ ستينيّات القرن الماضي...
بن دحمان: لم أقل إنّها وليدةُ التسعينيّات، بل قلت إنّها عرفتْ تحوّلًا عميقًا في هذه الفترة التاريخيّة ذات الدلالات العميقة في مستوى تطوّر مبادئ الحقوق الثقافيّة واللغويّة والإثنيّة. لا يمكننا أن نبرّئ الحركات الأمازيغيّة من التأثّر المباشر بما جاءت به الموجةُ الثالثةُ من الحقوق المدنيّة والثقافيّة في العالم.
لبيض: لكنّ الحركات الأمازيغيّة كانت سبّاقةً إلى المناداة ببعض عناصر التحوّل الذي تشير إليه هو نفسه. وما علينا إلّا العودة إلى أدبيّات هذه الحركات ومقرّراتها التنظيميّة وأنشطتها لنقف على الصورة العامّة. وما دمنا في رحاب التاريخ، أتوجّه إلى الأستاذ أمين الكوهن باعتباره متخصّصًا في مجال التاريخ، وتحديدًا تاريخ الطائفة اليهوديّة المغربيّة.
أمين الكوهن: هذا الموضوع مهمّ جدًّا، ويملك راهنيّته، غير أنّه ليس مطروحًا علينا ــ نحن المغاربة ــ بالحدّة التي يُطرح بها في المشرق العربيّ، حيث باتت الهويّةُ من المعضلات التي تفكّك بعضَ المجتمعات العربيّة حتّى وصلتْ إلى القتل على الهويّة.
السؤال الذي أنطلقُ منه هو: هل يمكن الحديثُ عن الهويّة هكذا في زمن العولمة؟ إنّنا نعيش في زمنٍ يتداخل فيه المحلّيُّ والكونيّ، ولم تعد الحدودُ واضحةً بين الخصوصيّة الثقافيّة والمواطنة المعولمة. في هذا الزمن لا بدّ من الحديث عن الهويّة بشكلٍ ينسجم ومتغيّراتِ العصر، ومتطلّباتِ العيش المشترك داخل الكوكب الأرضيّ.
وإذ أحدّثكم عن الهويّة وقضايا العيش المشترك في المغرب، أتذكّر دراسةً قدّمتْها باحثةٌ سوسيولوجيّة سنة 1960، بُعيد استقلال المغرب، عن الطائفة اليهوديّة، وفيها حاولَت استفتاءَ بعض أفرادها عن منظورهم إلى استقلال المغرب. ما فاجأني هو تصريحٌ لأحد المستفتين، إذ اعتبر لحظةَ استقلال المغرب هزيمةً شخصيّةً، متماهيًا في ذلك مع فرنسا الاستعماريّة! وتابع قائلًا إنّه حين كان المغاربةُ ينادون "يحيا الملك يسقط الاستعمار" كان يردّد معهم الشعارَ نفسَه لكي يَظهر أمام المسلمين أنّه مواطنٌ مغربيٌّ مثلهم! نلاحظ في الجماعة اليهوديّة نفسها اختلافاتٍ تحدّد كيفيّةَ انتماء كلّ فرد [يهوديّ]. وهذا الوضع لم يكن وليدَ المصادفة، وإنّما نتيجةً للعمل الذي قامت به الصهيونيّة من أجل خلق انشطار داخل الطائفة اليهوديّة، لفصلها عن انتمائها الوطنيّ، ومن ثمّ إعدادها لمرحلة "الترانسفير" (التي تمّت بعد سنوات قليلة من هذه الدراسة).
قضيّة أخرى تُثار أثناء مقاربة سؤال الهويّة، وهي درجةُ الوعي بالهويّة. هناك العديد من المدارس الحديثة التي تسهم في الإجابة عن هذا الموضوع، لكنّها تلتقي في نقطةٍ أساس: وهي أنّنا لا يمكن أن نقارب مسألة الهويّة إلّا في إطار التفاعل مع الآخر. وتاريخ المغرب مليء بالمحطّات التاريخيّة التي وعى فيها المغاربة هويّتَهم عندما التحموا بـ"الآخر" أو واجهوه، سواء كان الرومان أو الوندال أو البيزنطيين. غير أنّ الدراسات التاريخيّة تُجمع على أنّ هذا التعبير كان محدودًا في ما سمّي "موريطانيا" (المغرب الحاليّ)، وأكثرَ حضورًا في منطقة نوميديا (من وادي شلف في الجزائر إلى الشرق). إلّا أنّه في العام 122 هـ، مع ما سمّي "ثورةَ البربر،" وقعتْ قطيعةٌ بين دولة الخلافة في المشرق، والمغاربة البربر الذين واجهوا الخلافة و"تسلّطها." وفي هذه الأثناء بزغت النزعةُ الهويّاتيّة عند المغاربة لِما لاقوْه من إذلالٍ من طرف الخلافة الأمويّة في المشرق.
وظلّ الوضع على هذه الشاكلة إلى أن جاءت الدولةُ الموحّديّة، التي حاولتْ أن تخلق للمغرب هويّةً خاصّةً به، انطلاقًا من تأويل خاصّ للهويّة. وهذا الوعي بالهويّة هو ما سيؤدّي بنا إلى ما وقع في أواسط القرن التاسع عشر من اصطدام مباشر بالأجنبيّ: بدءًا باحتلال الجزائر، ولجوء الأمير عبد القادر إلى المغرب، ووقوع معركة إيسلي التي انهزم فيها الجيشُ المغربيّ. وأمام تزايد حدّة هذا الاصطدام، ازدادت الرغبةُ في تحديد الهويّة الخاصّة والكيان المسمّى "المغرب" واستمراريّته في مواجهة الأطماع، منذ حكم الحسن الأوّل.
بعد هذه المرحلة ظهرتْ كتاباتٌ ناقشتْ موضوعَ الإصلاح وتجاوز مرحلة الهزيمة. فعلّال الفاسي كان يتحدّث عن "القوميّة المغربيّة،" ويربطها بأربعة عناصر: العرب، والبربر، واليهود، والسود. ويعتبر أنّ الهويّات الثلاث الأولى منصهرةٌ بشكل آليّ باعتبارها تنتمي إلى الفضاء المتوسّطيّ، بينما هويّةُ السود القادمين من جنوب الصحراء هويّةٌ خارجيّةٌ لكنّها ــ نظرًا إلى طول المدّة ــ أخذتْ هي كذلك في الانصهار في الهويّة المغربيّة الجامعة.
هذا الوعي سيأخذ وجهًا آخر بدءًا من ستينيّات القرن الماضي مع بروز تيّار جديد في التفكير من منطلقاتٍ وطنيّةٍ، أسّستْ له الحركاتُ الأمازيغيّة. وهذا الوعي سيظلّ يملأ الساحةَ الثقافيّةَ المطالبةَ بالمساواة وبالحقوق الثقافيّة واللغويّة، إلى أن تمّ لها ذلك مع دستور 2011.
لكنّنا يجب ألّا نُسقطَ من نقاشنا دورَ الإسلاميّين المغاربة في التأثير في مسار تشكّل الهويّة الوطنية المغربيّة، والدفاع عن بعض مكوّناتها. كما ينبغي استحضارُ القاعدة المادّيّة والمصالح الاقتصاديّة لكلّ مجموعة من المجموعات على طول التجربة التاريخيّة للمغرب.
أحمد ويحمان: سأنطلق من عنوان الندوة لأقول إنّي لا أتّفق مع صياغته العامّة. فما معنى "العيش المشترك"؟ وهل العنوان يعكس الهمَّ الوطنيّ، همَّ الإنسان البسيط الذي يعيش على إيقاع همومه اليوميّة؟ بمعنًى آخر، أيُعتبر هذا السؤال نتيجةً لديناميّة ذاتيّة للتفاعلات والصراعات والمؤثّرات المتبادلة لتَدافُعِ مختلف الاستراتيجيّات والمصالح؟ أطرح أمامكم فرضيّةً لمقاربة إشكاليّة الندوة، وهي كالآتي: إنّ مسألة "الهويّة،" كما هي مطروحة اليوم، لا ترتبط بالواقع الاجتماعيّ الداخليّ وبديناميّته المختلفة، بل بالتطوّرات والحسابات الدوليّة للغرب الرأسماليّ الاستعماريّ، وبمصالح الشركات العملاقة العابرة للقارات (شركات صناعة الأسلحة، والشركات النفطية...). إنّ قضيّة الهويّة قضيّة مفتعلة، وتدخل ضمن دائرة "القضايا المزيّفة" (les faux problème) التي تُستخدم عادةً لحرف النقاش العموميّ عن مجراه الصحيح، الذي هو صراعٌ بين المستحوِذين على الثروة الوطنيّة وبين المحرومين من الاستفادة من خيرات هذه الثروة.
إنّ ما يجري في المغرب، وفي غيره من الأقطار العربيّة، هو جزءٌ من برنامجٍ اعتمدتْه الإدارةُ الأمريكيّة منذ غزو العراق سنة 2003، لكنّ القرارَ فيه اتُّخذ منذ سنة 1983، وهي السنة التي عُرض فيها على الكونغرس الأميركيّ ونوقش وصودق عليه. وقد ذكر الأخ جمال صاحبَ نظريّة "صراع الحضارات،" لكنّ هذا ليس إلّا حلقةً من سلسلةٍ أسّس لها الصهيونيّ برنارد لويس الذي صار مستشارًا معتمدًا لبوش الأب والابن؛ فهو أستاذُ المحافظين الجدد، أمثال ديك تشيني ورامسفيلد وكيسنجر. ولويس هو صاحبُ فكرة "البديل للجيوستراتيجيّة الأميركيّة" بعد سقوط شاه إيران سنة 1979، ووصول الملالي إلى الحكم. فكان أن ظهرتْ عنده، بعد ذلك، نظريّةُ "الاحتواء المزدوج،" التي ستجد تعبيرَها الجليّ في منطوق كوندليزا رايس التي تحدّثتْ عن "الفوضى الخلّاقة."
ما يجري اليوم من احتراب في مسألة الهويّة لا يمكن فهمُه في معزلٍ عن جذوره التاريخيّة. وهذه الجذور تعود إلى منشور ليوطي، الحاكمِ العسكريّ في المغرب آنذاك (1915)، الذي أرسله إلى مسؤولي المخابرات الفرنسيّة في كلّ التراب المغربيّ. والمتأمِّل لما جاء في هذا المنشور يكشف العلاقة التلازميّة بين ما ورد فيه، وما تريد جهاتٌ أمازيغيّةٌ الترويجَ له باعتباره مطلبًا حقوقيًّا وسياسيًّا "بريئًا." فبعد احتلال الجزائر سنة 1930، وانهزامِ المغاربة في معركة إيسلي، وتوقيع اتفاقيّة مغنية سنة 1944، طرح الفرنسيّون، على لسان ريمون طوماسي، السؤالَ الآتي: كيف ندخل إلى المغرب بتكلفة أقلّ ممّا دفعناه في الجزائر؟
أحيل هنا على أطروحة جرمان عيّاش عن حرب الريف، إذ تحدّث في مقدّمتها عن النقاشات التي دارت داخل الجمعيّة الوطنيّة الفرنسيّة للإجابة عن السؤال: هل نعتمد على "المخزن" للفتك بالقبائل، أمْ نعتمد على القبائل لتصفية هذا النظام التقليديّ العتيق؟ أمّا السؤال عن "السبيل للدخول إلى المغرب،" فقد أجابت عنه جمعيّةُ الجغرافيين الفرنسيين التي كانت تُنظَّر للغزو والاستعمار، إذ أكّدتْ ضرورةَ الاعتماد على العِلم بدلًا من السلاح. ومن هنا بدأتْ فكرةُ إرسال البعثات الاستكشافيّة. إلى أن جاء دور شارل دو فوكو 1883، ومن بعده إدمون دوتي، الذي وصل إلى خلاصة حول مسألة الهويّة في المغرب، قال فيها: "الأحمق وحده مَن يحاول الاستثمار في التفريق بين البربر والعرب في المغرب."
ومع ذلك، لم يتوقّف الفرنسيّون عن الاشتغال في موضوع الهويّة، وزرع التشرذم بين مكوّنات المجتمع المغربيّ من أجل التحكّم في مفاصله. وهذا ما سيكشف عنه منشورُ ليوطي المشار إليه آنفًا، حين يخاطب ضبّاطَ المخابرات الفرنسيّة في المغرب قائلًا: "من الناحية اللغويّة يجب أن نطمح إلى المرور مباشرةً من اللغة البربريّة إلى اللغة الفرنسيّة. ومن أجل هذا، نحتاج إلى متخصّصين في البربريّة. ويجب على ضبّاطنا في المخابرات أن يَشْرعوا بعزمٍ في دراسة اللهجات البربريّة. كما يجب أيضًا إنشاءُ مدارس فرنسيّة ــــ بربريّة تُلقَّن فيها الفرنسيّةُ لأبناء البربر."
ويضيف ليوطي: "أمّا من الناحية السياسيّة العاجلة، فإنّ هدفَ هذه المدارس يكمن في تدجين الأهالي، والإبقاء على بلاد المخزن، وعلى الاختلافات اللغويّة والدينيّة والاجتماعيّة الموجودة بين المتديّنة بالإسلام والمستعربة ."
بعد هذا المنشور مباشرةً، ستتأسّس ثانويّةُ طارق، وسيتأسّس دير تومليلين. وأن يأتي النقاش محتدًّا اليوم حول الهويّة، أفلا يكون ذلك تطبيقًا لبنود هذا المخطّط اللعين؟
لبيض: تَصْعب مقاربةُ سؤال الهويّة من زاوية "المؤامرة على اللغة والثقافة" لأنّ المسألة الهويّاتيّة تشمل مجالاتٍ أخرى نحتاج إلى أن نتوقّف أمامها. ثمّ، ألأ يُسقط ما أثاره الأخ ويحمان كلَّ تفكير صحيح في مسألة الهويّة كديناميّة مجتمعيّة، وكمطلب مجتمعيّ لا يمكن المرورُ عليه مرور الكرام؟
رشيد الإدريسي: الغاية من مناقشة موضوع الهويّة هو التوضيح، وتقريبُ وجهات النظر، وإبرازُ مكامن الخطر التي ترتبط بهذا الموضوع، وذلك من منطلق الرغبة في العيش المشترك ــــ وهذا ما أشارت إليه أرضيّةُ الندوة.
بالنسبة إلى "تاريخيّة التفكير في الهويّة المغربيّة،" فإنّه، لفهمها، لا بدّ من إدراجها في إطارٍ أشمل، هو تاريخيّة التفكير في الهويّة ككلّ. وعندما نعود إلى دراسة جان كلود كوفمان، أحدِ السوسيولوجيين الفرنسيين، نراه يشير إلى أنّ قضيّة التفكير في الهويّة حديثة جدًّا، ويربطها بفترة زمنيّة محدَدة، ولا سيّما بعد الحرب العالميّة الثانية.
بالنسبة إلى موضوع الهويّة كإشكاليّة، فإنني أعتقد أنّه لم تكن هناك ضرورةٌ لطرحه في مجتمعات كالمجتمع المغربيّ: فكلّ طرف ــــ كما يقول هذا السوسيولوجيّ ــــ يَعرف الطرفَ الآخر ويتعايش معه بشكلٍ اعتياديّ؛ فما إنْ يندمج في مجتمع حتى يكتسب مجموعةً من القيم والعادات والتقاليد بحيث يعيش هويّته بطريقة تلقائيّة. والمغربيّ لم يشذّ عن هذه القاعدة. لكنّ المحطّة الأساسيّة في تاريخ الهويّة المغربيّة ــــ وهنا أشاطر الصديق ويحمان الرأي ــــ هو حدث "الظهير البربريّ."
إنّي أرى نوعًا من السكوت عن هذا الحدث الرهيب لأنّ البعض يعتقد أنّه إذا فتحنا هذا الملفَّ فسنسيء إلى الحركات الأمازيغيّة. وهذا، لعَمري، خطأ كبير؛ فالأمر لا يعدو أن يكون مجرّدَ تسمية شاعت آنذاك. ولم يكن "الظهير،" كما يظنّ البعض، قانونًا يهدف إلى إنصافِ مكوّنٍ من المغاربة، بل هدف إلى تفكيك النسيج المجتمعيّ المغربيّ حتّى يَسْهل التحكّمُ فيه وفي قيادته، وإثارة فتيل العرقيّة والإثنيّة بين أهله، بعدما صعب على الاستعمار إخمادُ نار المقاومة التي اجتاحته من كلّ حدبٍ وصوب. والذين يدافعون عن هذا الظهير المشؤوم يحتجّون بموافقة محمد الخامس عليه، والحال أنّ السلطان نفسه تراجع عن ذلك لما تبيّنتْ له مراميه.
لكنْ،هل الهويّة كيان ثابت وجامد؟ اتّفقت المداخلات حتى الآن على أنّ الهويّة دائمة الحركة والصيرورة والتفاعل مع متغيّرات الواقع. لكنّ تحوّلها لا يعني ميوعتَها وانفتاحَها على اللامتناهي. وكان الفيلسوف الفرنسيّ إدغار موران قد طرح بعض التصوّرات في كتابه المنهج (la méthode)، وبخاصّة في جزئه الخامس، حين اعتبر الهويّة شيئًا ثابتًا ومتغيّرًا في الآن نفسه. وهذا ما يجب أن نتمسّك به. فموران يقول إنّ الإنسان تموت فيه مئاتُ الخلايا، ولكنْ تولد فيه خلايا أخرى، فهل أصبح كائنًا جديدا؟ كلّا بالطبع.
مثلُ هذه المعطيات قد يدفعنا إلى بناء تصوّرات متوازنة حول الهويّة: تصوّرات تؤْمن بأنّ ثمّة "ثابتًا" (constante)، كما يقول الآن بورديو، وثمّة متغيّرات؛ لكنّ الأخيرة لا تحدث بجرّة قلم، بل تخضع لصيرورةٍ وإكراهاتٍ وتحدّيات.
وأختم الآن بأربع ضرورات في طرح سؤال الهويّة.
الضرورة الأولى تتمثّل في أنّ طرح موضوع الهويّة وتبادل الآراء فيها أمر محمود في ذاته.
الضرورة الثانية تكمن في عدم طرح هذا الموضوع من خلال مفاهيم قد تشوّه ذواتنا. خذوا، مثلًا، مفهوم "الشعب الأصليّ." فالكثير ممّن يتبنّى هذا المفهوم يقول إنّ الشعب الأمازيغيّ شعبٌ أصليّ؛ وهذا ليس بكلام علميّ، لأنّك بذلك تتحدّث عمّن وُجد أوّلًا على هذه الأرض ومَن وُجد ثانيًا، في حين أنّ الحفريّات أكّدتْ أنّ شعوبًا عديدةً عمرتْ هذه الأرض، وكانت موجودةً فيها قبل الأمازيغ. وأعتقد جازمًا أنّ البحث في الأصل هو بحثٌ في الوهم. والأهمُّ لمستقبل هذه الأمة هو الانسجام والتعايش.
أمّا الضرورة الثالثة فتكمن في معرفة أنّ الهويّة وتعريفها وتأويلها في المغرب تخضع للمصالح، وفي أحيان كثيرة لمصالح ضيّقة، في حين أنّ الهويّة يجب أن تراعي المصالحَ العامّة. فإذا كان لديّ تصوّر شخصيّ قد يكون لي فيه مصلحة لكنّه يعود بالضرر على عدد واسع من المغاربة، فأنا مطالَبٌ بأن أتراجع عنه من منطلق المسؤوليّة الوطنيّة.
الضرورة الرابعة تتمثّل في أنّ الهويّة تُعتبر منْفذًا قد تتسلّل من خلاله أطرافٌ مختلفةٌ إلى بلدٍ ما. وأذكّر هنا بـ وثائق ويكيليكس التي تسرّبتْ مؤخّرًا وتضمّنت الكثيرَ ممّا قام به بعضُ النشطاء الأمازيغ في المغرب. وعندها ستتساءل: كيف أمكنَ شخصًا يَعتبر نفسَه مغربيًّا أن يجلس إلى أجنبيّ ويطالبَه بأن يقدّم له المساعدة على الاستقواء على مغاربة آخرين؟! الأمازيغيّة قضيّة حقّ أريد بها باطل؛ بمعنى أنّها تُتّخذ من طرف بعض المشبوهين مبرّرًا لتمرير مجموعة من الأجندات والتصوّرات.
الهويّة ليست تصوّرًا مجرّدًا، بل ذات علاقة بالتاريخ. وستلاحظون أنّه في السبع عشرة سنة الماضية، صارت مسألة التاريخ تُطرح بقوّة، لكنّها لا تطرح في بُعدها الأكاديميّ الذي يتحلّى بصفات الدقّة والتحليل والمراجعة النابهة، وإنّما تُطرح من منطلقٍ عرقيّ. لذلك أجدُني مضطرًّا إلى الختمِ بنغمة متشائمة، فأقول: إنّ الهويّة المغربيّة، إذا لم يُعَد النظرُ في الكثير من أشيائها، وفي الكثير ممّا يتمّ تبنّيه في شأنها، فنحن سائرون نحو التمزّق. وهذا ما أشار إليه السيّد حسن أوريد، الناطقُ الرسميّ باسم القصر الملكيّ سابقًا، الذي تحدّث عن تصوّر متشظٍّ للهويّة المغربيّة، وقال إنّ هذا التصوّر، ، لأنّه قد ينعكس سلبًا على المغرب مستقبلًا.
لبيض: كلّ نقاش داخل دولنا العربيّة، باعتبار الوضعيّة التاريخيّة والحضاريّة التي نعيشها، عُرضةٌ لتدخّل الأجنبيّ. وقد ذُكر سابقًا أنّ مسألة الهويّة تُطرح في إطار لعبة المصالح الداخليّة؛ لكنّني أرى أنّ ذلك يشمل المصالحَ الأمميّة كذلك. وللتمثيل لا الحصر، نستشهد بحجم القرارات والمواثيق الدوليّة التي تكاد تحدّد لنا الأفقَ الهويّاتيّ الذي يجب علينا الاشتغالُ ضمنه، وقد تضع لنا ملامحَه في إطار مصالح إقليميّة ودوليّة. أتوجّه إلى السيّد الحسين أيتب احسين ليتحدّثَ باسم أعرق جمعيّة أمازيغيّة في المغرب، "الجمعية المغربيّة للتبادل الثقافيّ."
الحسين أيت باحسين: أعتقد أنّ التوطئة التي قدّمها الأستاذ عارف تمثّل أساسًا مهمًّا لإدارة النقاش. وينبغي أن نلاحظ أنّ الهويّة ــــ كما أشار إلى ذلك بعض الزملاء ــ ديناميّة متحرّكة، لا تستجيب لمنطق الثبات. وهذه الديناميّة ليست موقوفةً على الشقّ الوطنيّ فحسب، بل تمتدّ من شمال إفريقيا إلى دول جنوب الصحراء، ومنها إلى العالم برمّته. فلا يمكن تصوّرُ إعادة التفكير في شكل الهويّة ومقوِّماتها وطنيًّا إلّا ضمن هذه التوجّهات الكبرى التي ينتظم العالمُ كلُّه داخلها ويحتكم إلى اشتراطاتها.
ويجب ألّا ننسى كذلك أنّ مفهوم الهويّة كان دومًا يُناقش من خلال جهازٍ مفاهيميّ يَحْكم اللحظة التاريخيّة. فمثلًا، في أربعينيّات القرن الماضي، كانت مناقشة الهويّة تتمّ من خلال المفهوم المهيمِن ساعتها، وهو مفهوم "الشخصيّة." وأحيلكم على كتاب Le fondement culturel de la personnalité، لصاحبه رالف لَنْتون، وفيه ميّز بين الشخصيّة الأساسيّة للمواطن الأميركيّ التي يتساوى فيها كلُّ الأمريكيين، وبين الشخصيّة الوظيفيّة النقابيّة التي تجمعُ بعضَ العناصر من تلك الشخصيّة الأساسيّة، للدفاع عن مصالحها الفئويّة بعيدًا عن هواجس الشخصيّة الأساسيّة. ويعطي، مثالًا على ذلك، تجمّعَ سائقي الشاحنات، وهي نقابة قويّة في الولايات المتّحدة، حيث ينتفي التمييزُ بين الأسود والأبيض، وبين الإفريقيّ والآسيويّ والأميركيّ الجنوبيّ، لأنّ الوظيفة النقابيّة هي التي تجمعهم.
وهنا أستحضر ــ في إطار ديناميّة الهويّة ــ نوعين من الهويّة. فهناك الهويّة المُعطاة، مثل ما كنّا نسمعه عن الأمازيغ، في الستّينيّات والسبعينيّات من القرن الفائت، من نعوت وأوصاف قدحيّة. وهناك الهويّة المبنيّة، أي التي يشيّدها المواطنون المنخرطون في مشروع العيش المشترك، وفي إطار الدولة الحديثة بكلّ مقوِّماتها. ونحن اخترنا اليوم الانخراطَ في مشروع الهويّة المبنيّة، لأنّها هويّة تُبنى في إطار السلم الاجتماعيّ والأمن الثقافيّ.
كان اليسار، في بداية السبعينيّات، يؤكّد في نقاشاته معنا، كحركات أمازيغيّة، أنّ حلَّ مشكلة الأمازيغيّة لا يمكن أن يتمّ وسط الصراع السياسيّ مع النظام. لذلك كان يطلب إلينا إرجاءَ المطالبة بالحقوق اللغويّة والثقافيّة للأمازيغ المغاربة إلى حين حلّ المشاكل السياسيّة والاقتصاديّة. وها نحن نرى اليوم أنّ المشاكل الثقافيّة هي وراء الكثير من الأزمات التي تعيشها العديدُ من الدول!
اسمحوا لي بأن أعقّب على ما جاء في مداخلة أويحمان لأقول إنّ الأمازيع قاوموا المشروعَ الاستعماريّ الفرنسيّ في الريف والأطلس وكلّ الثغور المغربيّة. لم يكن هناك أمازيغيّ واحد يرضى بأن يُحتلّ وطنُه وتُسلب أرضُه. وحين تُطرح قضيّةُ "الظهير البربريّ" من جديد، وفي كلّ لقاء، فإنّ ذلك يعني أنّ هذا الظهير صناعة أمازيغيّة؛ والحال أنّ الأمازيغ هم أوّلُ مَن عارض هذا الظهير وتبرّأوا منه! والحقّ أنّني لا أدري معنى الإشارة المتعمّدة إلى "الظهير البربريّ" لحظةَ وصولنا إلى مرحلة بناء الهويّة المبنيّة. لكنْ، عندما نستعيد التفاصيل التي جاءت في بعض المداخلات، فإنّنا نجدها تشكّل جروحًا تاريخيّةً لأناسٍ هم اليوم في أمسّ الحاجة إلى استعادة التوازن للشخصيّة الوطنيّة؛ فقد عانوا التهميشَ أكثرَ من غيرهم من المغاربة، وأحسّوا من الضيْم والقهر ما لم يحسّه غيرُهم من أبناء وطنهم.
لبيض: هل يمكن أن تظلّ هذه "الهويّة المبنيّة" مفتوحةً على اللانهائيّ؟ كلُّ هويّة لا بدّ من أن تكون لها قاعدةٌ أساسٌ، تنصهر داخلها كلُّ المتغيّرات. فرنسا، مثلًا، دولة متعدّدة الإثنيّات والعرقيّات، لكنّها ذاتُ هويّة واضحة المعالم والأشكال، والكلُّ مضطرّ إلى الانصهار داخلها. ألا تروْن أنّه من شأن هذا الانفتاح الملتبس أن يجعل الهويّة المغربيّة عرضةً للتشظّي وعدم الاستقرار؟ ثمّ ماذا تعنون بـ "جروح التاريخ"؟ أهي جروحُ التاريخ المشترك بين كلّ المغاربة،أمْ جروحُ فئةٍ معيّنة؟
أيت باحسين: الهويّة المعطاة هي الهويّة التي يُلصقها بنا الغيرُ، وطنيًّا أو خارجيًّا. وهي عادةً ما تكون مثقلةً بالجراح. أمّا الهويّة المبنيّة فهي التي يُلجأ فيها إلى القوانين المتّفق عليها دستوريًّا، ويُعمل على تفعيل مقتضياتها على أرض الواقع. آليّاتُ بناء الهويّة المبنيّة هي وحدها التي تستطيع أن تقدّم لك، في نظري، علاماتِ التميّز باعتبارك مغربيًّا حداثيًّا، وتجعلك ــ في الوقت نفسه ــ تشترك مع غيرك في العديد من الخصائص الإنسانيّة.
لبيض: المكوِّنات غير الآليّات. الآليّات أداةٌ لتدبير قضايا التعدّد والاختلاف داخل هويّةٍ ما. أمّا المكوّنات فهي الأصل المشكِّل للهويّة، وقاعدة بنائها الأساسيّة. هذه الخصائص القاعديّة للهويّة هي التي نودّ أن تعرّفها لنا.
أيت باحسين: لدينا العديد من القيم المتّفق عليها، مثل المساواة والكرامة والعدالة. أمّا بالنسبة إلى جروح التاريخ، فأنا أعني بها مجموعةً من النعوت كان يُتّصف بها الإنسانُ الأمازيغيّ البسيط الذي يشتغل بقّالًا أو حِرفيًّا أو مهنيًّا في المناطق الحضريّة الكبرى كالدار البيضاء والرباط وفاس، وصارت بفعل تكرارها "حقائقَ" مزعومةً ملتصقةً بالشخصيّة الأمازيغيّة.
الإدريسيّ: "الظهير البربريّ" واقعة لم يصنعها الخيال. وعندما نشير إليه في سياق كلامنا، فلا يعني ذلك أنّنا نريد أن نقدحَ في الإخوة الأمازيغ الذين هم مغاربةٌ أقحاح، وإنّما نريد الإشارةَ فقط إلى حجم المؤامرة التي كانت تُحاك، وما تزال، ضدّ المغرب ووحدة نسيجه المجتمعيّ. فالبعض يريد أن يلج إلى المغرب مرّةً أخرى عبر بوابة الإثنيّة والهويّة واللغة. تحدثتم كذلك، أخي الحسين، عن جراح التاريخ، وقد أساندك في هذه النقطة...
أيت باحسين (مقاطعًا): آه! "قد" تساندني!! أليس غريبًا مثلُ هذا التعبير في زمن المطالبة بالعيش المشترك وبالمصالحة مع التاريخ؟!
الإدريسيّ: أقول "قد أساندكَ" لأنّ ما قَصَرْتَه من جراحٍ على الأمازيغ كان يجب أن تعمِّمَه على معظم أفراد الشعب المغربيّ، الذين عاشوا ويلاتِ زمن الرصاص والخوف والازدراء والتخويف وقمع الحريّات والتهميش. ألست تدري أنّ المواطن البدويّ البسيط الذي يسكن المناطقَ المعرّبة(1) هو كذلك لا يفهم المساطر ولا القوانين في المحاكم، ويُحكم عليه بالإعدام وهو لا يعلم لماذا؟ إنّ واقع التهميش والقمع يشترك فيه معظمُ المغاربة، لا الناطقون بالأمازيغيّة وحدهم.
ثمّ إذا كان همّ الحركة الأمازيغيّة أن يندمج المواطنُ الأمازيغيّ في وطنه ومؤسّساته، فلماذا اختار حرفَ تيفناغ الغريب الذي لا يفهمه أحد، بمن فيهم الأمازيغُ أنفسُهم؟ ومَن سيَفهم غدًا اللغة المعيَّرة والمستخرَجة من اللهجات الأمازيغيّة الثلاث؟ إنّ الذي تَحَكَّم في اختياركم، كحركات أمازيغيّة، لهذا الحرف هو الموقف الإيديولوجيّ الرافض لكلِّ ما هو عربيّ. وإلّا لماذا رُفضتْ كتابةُ حرف تيفناغ من اليمين إلى اليسار؟
أيت باحسين: الواضح، أخ رشيد، أنّك لستَ مواكبًا جيّدًا لما وقع في بدايات نقاش هذا الموضوع. فكفاك تلفيقًا لأحداثٍ لم تقع إلّا في خيالاتك.
الإدريسيّ: أنتَ تصادر حقًّا امتلكتُه من خلال المتابعة الحثيثة لكلِّ ما جرى من أحداث. فقد واكبتُ اختيار حرف تيفناغ من بداياته الأولى؛ بل كنتُ مقيمًا في الفندق الذي جرت فيه تلك المباحثات. والعديد من الإخوة في الحركات الأمازيغيّة، ومنها جمعيّتُكم المحترمة، تواصلوا معي في تلك الأثناء، وجرت بيننا نقاشات عديدة في الموضوع، ربّما لم تكن على علمٍ بها. ودعني أسالك في الختام: لماذا تصرّون، أنتم الأمازيغ، على الاحتفال بسَنَتكم الخاصّة؟ لماذا هذا الجنوح إلى التميّز والادّعاء أنّها سَنةٌ أمازيغيّة، علمًا أنّ مناطق عديدة في المغرب، مثل مزاب وعبدة ودكالة والشاوية، تحتفل بهذه السنة الفلّاحيّة التي تحتفلون بها، لكنْ بطريقةٍ تجمع كلَّ المغاربة؟
أيت باحسين: لقد دُعيتُ من طرف الأخ لبيض، وعبره من طرف مجلة الآداب مشكورةً، لأجل مناقشة موضوعٍ محدّد، هو "الهويّة وقضايا العيش المشترك." ولا أدري لماذا هذا التحليقُ في سماء موضوعاتٍ لا تفيد الهدفَ من لقائنا اليوم. لكنّي لا أرى بأسًا في أن أجيبك على بعض ما جاء في مداخلتك.
بالنسبة إلى السنة الأمازيغيّة فقد سبق أن كتبتُ عنها أكثر من تسع مقالات، آخرها هذا الأسبوع. وأنا أحيلك عليها لتدرك المغرى من الاحتفال.
أما بالنسبة إلى الجِراح، أخي رشيد، فإنّ من بينها ما تفضّلتَ به في مداخلتكَ من تعميم. والتعميم، كما يقول الفقهاء، بليّة. فأنت تعمّم ما قاله أحدُ أعضاء الحركة الأمازيغيّة وتُسقطه بتعسّفٍ على الحركات الأمازيغيّة، وتعتبره الموقفَ الرسميّ لهذه الحركات. وما نسمعه اليوم من إلصاق تهمة "التطبيع مع الكيان الصهيونيّ" بالأمازيغ أعتبرُه من الجراح الكبيرة، التي تصل إلى حدّ التخوين. وهذا يؤكّد لنا أنّ البعض لم يستوعبْ شروطَ المرحلة، التي تَفرض علينا الانتقال من الهويّة المعطاة إلى الهويّة المبنيّة.
أمّا عمليّة المعيرة التي تحدّثتَ عنها، أخي رشيد، فمردودٌ عليها بحكم أنّ كلّ اللغات الحيّة كانت قد مرّت بها، ومنها العربيّة. فليست هناك لغةٌ في العالم لم تمرّ من مرحلة التهيئة ورعاية تحوّلها من الطابع الشفهيّ إلى الطابع المكتوب. وهذا أعتبره جزءًا من الهويّة المبنيّة.
لبيض: الهويّة المغربيّة، عبر تاريخها الطويل، كانت هويّة متعدّدة ومركّبة. ولا شكّ في أنّ وراء تماسكها لاحمًا ما، يتمثّل لدى البعض في الإسلام. فهل ما يزال الإسلام قادرًا على أداء هذا الدور مع التحوّلات التي يشهدها المغربُ ممثّلة، بخاصةٍ، في نزوع أفراد، نختلف في عددهم لا في وجودهم، بدأوا يختارون دياناتٍ أخرى غير الإسلام؟
أحمد كافي: من الضروريّ استحضارُ تدخّل الغرب بشكلٍ سافر في تفكيرنا في هويّتنا؛ وهذا ما نجده ثابتًا في مجموعة من الشهادات والوثائق لسفاراتٍ داخل بلداننا تعمل على حماية أفرادٍ معيّنين، وعلى تشجيعهم، وتطلب منهم أن يقوموا بأدوار معيّنة تخدم الأجندةَ الإمبرياليّة والمصالحَ الغربيّة. وهذه الوضعيّة هي، في الأصل، امتداد لوضعيّة "المحميّين" في عهد الاستعمار.
الغاية من وجودنا اليوم، في هذه القاعة، هو الدفعُ بنا نحو التفكير في موضوع الهويّة بشيء من التجرّد، وبنوع من الحريّة التامّة، بعيدًا عن هواجس الإيديولوجيا أو التخوين. فمن الواجب مقاربةُ موضوع الهويّة كما نراه نحن، لا كما يراه غيرُنا من ذوي المطامع والمصالح. فالغرب، أيّها الإخوة، ليس مؤتمَنًا على الهويّات، وهو الذي أباد هويّاتٍ عديدة، ومحقَ لغاتٍ متنوّعة، بعنف وبشراسة لم تصل إليهما أنظمتُنا المستبدّة نفسُها.
موضوع الهويّة شائك ومركّب. إذ يمكننا توظيفه في إطار البناء والإعمار، أو في إطار تَغْلب عليه الأنانيّة والإقصاءُ والإلغاء. وحين توظَّف هويّتُنا في منحى التصفية مع الكفاءات والرموز الوطنيّة، فهنا تكمن المشكلة. فلا أحد يجادل في أنّ الأمازيغيّة مكوّنٌ أساسٌ من مكوّناتنا الوطنيّة. وإذا كانت هناك نُكتٌ حول الأمازيغيّ، فإنّ ثمّة مثيلاتٍ لها عن العروبيّ والفاسيّ والصحراويّ وأصحابِ البشرة السمراء، الخ. إنّها ديناميّةُ مجتمعٍ يحاول أن ينفّس عن نفسه بالسخريّة غير المقصودة في أبعادها الحقيقيّة العرقيّة أو الإثنيّة.
الهويّة، كذلك، أداةٌ نجدها في أبسط أمور حيواتنا. فنحن مثلًا في إطار اجتماعاتنا الحزبيّة، التي تؤطَّر داخل المشترَك الإيديولوجيّ الواحد، مختلفون في شكل اللباس: فالشماليّ متمسّكٌ بلباسه، والبدويّ متشبّثٌ بتقاليده في اللباس، والصحراويّ كذلك... لكنْ، أثناء الاجتماعات، لا أحد يبالي بشكل هويّته الخارجيّ، بقدر ما ننخرط في مناقشة الهموم والقضايا نفسها. هكذا اعتاد المغاربة مقاربة هويّتهم الغنيّة والمتعدّدة، المتمثّلة في الأعراف والتقاليد والأطعمة والألبسة وطرق الاحتفال والحزن، من دون أن يدخلوا في النقاش الفكريّ الإيديولوجيّ لمفهوم الهويّة، الذي قد لا يستوعبه بعضُهم أصلًا.
أمّا عن حضور الدين في تشكيل الهويّة، فهذا أمر لا فرار منه. انظروا إلى الدول الغربيّة التي تدّعي أنّها لائكيّة (laique) وديمقراطيّة، وكيف تصرّ على الاحتفال بعيد ميلاد السيّد المسيح. وعندما نتحدّث عن "الصليب الأحمر،" فإنّنا نتحدّث عن رموزٍ دينيّة، لا عن رموز فكريّة أو طبّيّة. الدين، إذن، حاضرٌ دومًا في أيّة هويّة. وأعتبر أنّ الهويّة المغربيّة ماتزال في حاجة إلى هذا اللاحم ليمنعنا من التفجّر من الداخل؛ وهذا ما أسمّيه "الحوض المشترك."
(الجزء الثاني)
لبيض: أقترحُ عليكم دمجَ المحوريْن الثاني والثالث: "الهويّة والبناء الديمقراطيّ،" و"مستقبل النقاش الهويّاتيّ في المغرب في ضوء المتغيّرات الإقليميّة والدوليّة." وبدايةً، أطرح السؤالَ الآتي: مَن يحقّ له اليوم إطلاقُ مشروع إعادة التفكير في مسألة الهويّة المغربيّة؟ الدولة أم المجتمع؟ وما حدودُ كلّ طرف؟ وهل يمكن التفكير في انتقالٍ ديمقراطيّ في ظلّ احترابٍ هويّاتيّ؟ وهل تمْكننا مناقشةُ مسألة الهويّة في غياب المعاهدات الدوليّة الخاصّة بالحريّة، وبخاصّةٍ ما يتّصل بالجيل الثالث من الحقوق؟
عارف: أستسمحُكم أوّلًا في تأطير بداية مداخلتي بثلاثة عناصر، أعتبرُها مداخلَ أساسيّةً للتفكير في الموضوع.
أوّلًا: الهويّة سيرورة في الزمان والمكان والوجدان؛ ومن ثمّ لا يمكن أن ننظر إلى هويّةٍ ما خارج تفاعل الأفراد مع ما ينتجه محيطُهم الوطنيُّ والدوليُّ من مستجدّات. ويُعدّ الانتقالُ الذكيّ من الهويّة المعطاة إلى الهويّة المبنيّة ــ بحسب تعبير الصديق أيت باحسين ــــ هو التحوّل المنشود، خصوصًا أمام هذا السيل الجارف من الحقوق الفرديّة والجماعيّة التي أتاحها الجيلُ الثالثُ من الحقوق المدنيّة، وفق ما أشار إليه د. جمال بندحمان.
ثانيًا: عندما نتحدّث عن الهويّة أو الذات، فإنّنا نتحدّث عن الآخر، أكان سياسيًّا أو عرقيًّا أو إيديولوجيًّا.
ثالثًا: حين نتحدّث عن الهويّة، لا بدّ من أن ندرك أنّ التنوّعَ داخلها رصيد إيجابيّ. غير أنّ هذا الرصيد قابلٌ لأن يكون مصدرًا يُثري شروطَ الانتماء والتعايش، أو أداةً لتفجير النعرات وتفكيك المجتمع.
في ضوء هذه المحدِّدات، فإنّني أعتبر أنّ السؤال الذي ينبغي أن يُطرح هو العمل من أجل إنضاج جهود تقوية مجالِ العيش المشترك بين مختلف مكوّنات المجتمع. فالمغرب لا يعاني احترابًا هويّاتيًّا، بالرغم من كلّ الإحالات التي أشيرَ إليها في الفترة الاستعماريّة، وبالرغم من الجروح التاريخيّة التي ألمع إليها البعض. ما هو اللاحم الذي يمنع المغاربةَ من الاحتراب الهوياتيّ؟ أهو الدين؟ اللغة؟ الحضارة؟ الوجدان المشترك؟ لحسن الحظّ أنّنا ننتمي إلى نسيجٍ مجتمعيّ استطاع الحفاظَ على القدر الكافي من عناصر التماسك، وضمنَ نوعًا من التجاور الهادئ والسلميّ بين كلّ مكوّنات الهويّة المغربيّة. لذلك، أختلف مع الأستاذ ويحمان في هذه النقطة بالذات، وأؤكّد له أنْ لا خوفَ على تماسك ذلك النسيج لأنّ ما يجمعه أكثرُ ممّا يفرّقه.
لكنّني أُقرّ بأنّنا نعيش أزمةَ اختيارات، وأزمةَ ثقةٍ في الانتماء، وذلك لكون المواطن محرومًا من أبسط حقوقه. الهويّة انتماء، لكنّها كذلك عطاء. فالهويّة لا تقتصر على المكان، وإنّما تتأسّس على جوانبَ اقتصاديّةٍ وثقافيّةٍ كذلك. ودور الدولة يكمن في تمكين المؤسّسات من آليّات الحماية ــــ لا حمايةِ الممتلكات فقط، وإنّما أيضًا حماية الأفكار والمعتقدات بما يحقّق التناغمَ الجماعيّ للانتماء إلى الوطن الواحد. فلا ديمقراطيّة من دون تعدّد. وعندما نقول بالتعدّد، فإنّنا نقول بانفتاح الهويّات بعضها على بعض، لا بالهويّات القاتلة التي تقصي الآخر ولا تعترف إلّا بذاتها وتعبيراتِها الخاصّة.
كلُّ انتقال ديمقراطيّ يتطلّب صراعًا بين اختياراتٍ لغويّة وعقائديّة وثقافيّة وغيرها. غير أنّ هذا الصراع ينبغي ألّا يجري ضمن أجهزة يتحكّم فيها البعدُ الدينيّ أو الإثنيّ أو الجهويّ أو اللغويّ من أجل ضمان مكاسب مسبّقة داخل حلبة التدافع الديمقراطيّ. فلا ينبغي للمشترَك أن يُوظَّفَ آليّةً من آليّات الصراع الاجتماعيّ؛ فتوظيف الدين، مثلًا، لا يتيح مقوِّمات الممارسة الديمقراطيّة الناضجة بقدرِ ما سيعمّق الشروخَ بين مكوّنات المجتمع الواحد.
إنّ اتّساع منظومة الحقوق كونيًّا انعكس بقوّة على تصورّاتنا وعلى التشريع؛ ومن ثمّ، فإنّ ظهور نغمات حقوقيّة جديدة أمرٌ طبيعيّ جدًّا، ويمكن استيعابُها بمرونة متدرّجة. المشكل ليس في الحقوق، وإنّما في الثقافة التي يمكن أن تؤطّر سلوكًا ما ليكون جزءًا من الممارسة المقبولة داخل مجتمع ما، وبما يتوافق وخصوصيّاتِه وانتظاراتِه.
لقد أكّدتْ تجاربُ الشعوب المتقدّمة في التجربة الديمقراطيّة أنّ البناء الديمقراطيّ هو الوحيد المؤهَّل ليشكّل رافعةً أساسيّةً للعيش المشترك بين هويّات مختلفة. لذلك، فإنّ العلاقة بين الديمقراطيّة والهويّة ليست ــ في نظري ــعلاقةً تتابعيّةً إلحاقيّة؛ إذ ليس علينا أن نضع أسسَ الديمقراطيّة ونحسم في قضاياها، ثمّ نأتيَ بعد ذلك لنحسمَ في أمور الهويّة. العلاقة بين الديمقراطيّة والهويّة تَحْكمها، في رأيي، ديناميّةٌ جدليّة؛ أي إنّ اطمئنان الأفراد والمجموعات الهويّاتيّة لا يتمّ بعد إنجاز الديمقراطيّة، وإنّما داخل البناء الديمقراطيّ ذاته، القائمِ على التوافقات التي توسِّع من مساحات العيش المشترك وتدبّر الاختلافَ ضمن آليّات مؤسّساتية. من هنا أقول إنّ المواطَنة هي الشكل المناسب لردم التناقضات القابلة للانفجار في أيّة لحظة.
السؤال الحقيقيّ المطروح اليوم لا يتعلّق بالهويّة المغربيّة بشكلها المعزول، وإنّما يتعلّق بمجموع الهويّات. فإذا اعتبرنا الهويّة إطارًا تتفاعل ضمنه متغيّراتُ الانتماء مع معطيات كونيّة محيطة به، فلا بدّ من الإقرار بأنّه لم يعد هناك مجالٌ لـ"النقاء" الهويّاتيّ المطلق. نحن اليوم نعيش في ظلّ ثورة المعلومات وانتفاء الحدود التي كانت تحصّن هويّتنا في مجالٍ جغرافيّ وثقافيّ محدّد. ومن هنا يمكن القول إنّ هويّتنا تعيش مخاضًا جديدًا يحتّم عليها الإجابة على أسئلة مستجدّة.
الكوهن: تتكوّن الهويّة من مجموعة عناصر، ومن ضمنها الأسطورة ــــ الذاكرة. وكلُّ التجلّيات التي نلاحظها تؤكّد ذلك؛ فاستحضار الماضي هو قراءة معيّنة لتجميع عناصر الهويّة.
حديث الأستاذ ويحمان عن الهويّة باعتبارها قضيّةً مفتعلةً له جانبٌ من الصحّة مادامت هناك أطرافٌ تحاول أن تصرف النظرَ عن الصراع الحقيقيّ. إضافةً إلى أنّ الغرب غيرُ مؤتمنٍ على الهويّات بفعل السلوكات الإجراميّة التاريخيّة التي قام بها في حقّ مجموعةٍ من الهويّات والأقليّات الإثنيّة والعقديّة واللغويّة. لكنّني أسأل: ألا تعني هذه الخروقُ الكبيرة أنّنا أمام هويّة فيها الكثيرُ من الهشاشة؟ أليس من حقّنا أن نضع آليّاتٍ لحماية هذه الهويّة في زمن الانفتاح وتفجّر الهويّات؟ ومَن يتحكّم الآن في صوغ الهويّة؟ المثقّفون، أم الدولة، أم المجتمع بكلّ فئاته، أم أنّ هناك موجة أكبر تحدّد الهويّة، وأعني بها موجة العولمة؟
بدايةً، لا يمكن الاعتقاد البتّة أنّ العولمة ستبيد الهويّاتِ الخاصّة، بل قد تسهم في إعادة تشكّلها؛ وهو ما لا ترتضيه العديدُ من الهويّات، فتنحو نحو الانكفاء، ما قد يحوِّل مكونّاتِها إلى قنابلَ موقوتةٍ ممثَّلةٍ في جماعات تكفيريّة رافضة للمشروع المستقبليّ المفتوح. وهذا التطرّف موجود اليوم في المغرب يمينًا ويسارًا؛ وهو ما يجعل المغربَ اليوم مطالَبًا بفتح النقاش حول ملفّ الهويّة وإعادة تشكيلها وبنائها على أسس جديدة.
أشار الأخ ويحمان إلى ظاهرة التمسيح في المغرب. تقريرٌ صادرٌ عن الخارجيّة الأميركيّة أشار إلى وجود هذه الطائفة المسيحيّة؛ كما صرّح رئيسُ هذه الطائفة أنّ عدد الذين اعتنقوا المسيحيّةَ في المغرب وصل إلى مليون إنسان. قد يكون العددُ مبالغًا فيه، لكنّ أمر المسيحيين المغاربة أصبح واقعًا يفرض نفسَه علينا جميعًا.
وباعتباري باحثًا في تاريخ الطائفة اليهوديّة في المغرب، فإنني أؤكّد أنّ هناك عائلات، ومنها عائلة في مدينة سطات، تمارس يهوديّتَها "تقيّةً" على الرغم من أنّها أعلنتْ إسلامَها. فكما نعلم، في ستينيّات القرن الماضي، أسلمتْ مجموعةٌ من اليهوديّات، لكنّ جزءًا منهنّ بقين على دينهنّ سرًّا. ولمّا كانت اليهوديّة تنتقل عن طريق الأمّ إلى أبنائها، فإنّه يمكن تقديرُ الدور الكبير الذي أدّته اليهوديّاتُ "المتأسلماتُ" في ترسيخ القيم الدينيّة اليهوديّة عند أبنائهنّ.
مثل هذه الأشياء وغيرها يدعونا إلى التفكير المتجدّد في مسألة الهويّة المغربيّة، بعيدًا عن البديهيّات والمسلّمات. اليوم، وقد دخلنا مرحلةَ المصالحة، بإرادةٍ تشترك فيها الدولةُ والفاعلون السياسيّون والثقافيون، فإنّ ذلك يعني أنّ الجميع ارتضى أن ينخرط في مسلسل الانتقال الديمقراطيّ الذي أفضى إلى التجربة السياسيّة سنة 1997، فحكومة 1998، ثمّ مرحلة الإنصاف والمصالحة، وانتهاءً بمرحلة الاعتراف بالأمازيغيّة. لكنْ يبدو أنّ السلطة السياسيّة المتحكّمة لا ترغب في فتح المجال لمختلف أشكال التعبير، ما يجعلها ترتكس أحيانًا إلى منطق التقليد والقديم. ولا يعني هذا أنّ دورَ المجتمع سينتهي، بل ما يزال قائمًا ما دام مجالُ الصراع مفتوحًا حول بناء مشروع مجتمعيّ.
المطلوب منّا الآن هو أن نربّي جيلًا جديدًا على قيم الكرامة والعدل والحقّ، وعلى كلّ ما هو إنسانيّ في علاقته بالمواثيق الدوليّة، وبالجيل الثالث على الخصوص. فذلك هو ما سيفتح الآفاقَ على النقاش الداخليّ في مسألة الهويّة بنوع من الانفتاح والعقلانيّة.
أحمد ويحمان: أبدأ بتوضيح صغير لما جاء في كلام الأخ الحسين بشأن التعميم. أنا معك في أنّ التعميم خاطئ، ويجب أن نميّزَ فعلًا بين أمازيغ متصهينين وعملاء للموساد الصهيونيّ من جهة، وبين أمازيغ أحرار ووطنيّين من جهةٍ ثانية. هؤلاء الأخيرون نقدّرهم ونعتزّ بهم مكوّنًا رئيسًا من مكوّنات الهويّة الوطنيّة. أما الحديث عن الأمازيغ المتصهينين فليس مجرّدَ تخمين، بل نابعٌ من أدلّةٍ دامغة وقرائنَ قاطعة.
إنّ بنك الأهداف الذي يشتغل عليه هذا المخطَّط يهدف إلى تقسيم المغرب إلى خمس دويْلات: جمهوريّة الريف، وجمهوريّة أسامر، والجمهورية العربيّة الصحراويّة الديمقراطيّة، وجمهوريّة سوس، والمملكة المغربيّة. يُنسب إلى عموس يدلين (رئيسِ الاستخبارات العسكريّة الإسرائيليّة السابق) قولُه إنّ الإسرائيليين أنهوْا إرساءَ شبكاتهم في تونس والجزائر والمغرب. وكنّا قد عقدنا ندوةً صحفيّةً في الموضوع، وأردنا أن نتقدّم إلى البرلمان في شأنه، لكنّ رئيسَ الحكومة طلب منّا التريّث.
إنّ المغرب ليس محميًّا ممّا يجري حوله من فِتن، إذ يمكن أن ننام اليوم ونستيقظ على مغربٍ شبيهٍ بليبيا أو سوريا أو اليمن! رئيسُ المجلس التشريعيّ الفلسطينيّ المرحوم عبد الحميد السايح، في كلمته في منتدى الفكر والحوار سنة 1983، ذكر أنّه قرأ كتابًا قدّمه إليه المؤرّخ التونسيّ الحبيب الجناحي، كتبه صهيونيّ فرنسيّ، يؤكّد فيه أنّ الصهيونيّة أنهت الشقَّ الأوّلَ من مشروعها في المشرق العربيّ، وهي بصدد التخطيط لمعالم مشروعٍ مماثلٍ في المغرب العربيّ، وذلك من خلال استغلال العنصر الأمازيغيّ.
أذكرُ لكم اسمًا آخر، وهو فرحات مهني، الذي زار الكيانَ الصهيونيّ سنة 2012 وطلب من "شرفاء الكنيست" دعمَ استقلال جمهوريّة "القبايل" عن الجزائر، وكان إلى جانبه نائبُ رئيس الكنيست.(2)
أضيفُ أنّ أحد زعماء الأمازيغ ناشد الأمين العامّ كي يتدخّل تحت البند السابع ضدّ المغرب لحماية "الأمازيغ المضطهَدين." لا ننكر أنّ بعض الأمازيغ يتعرّض للتهميش، لكنْ ليس كلّهم؛ فأكبرُ ملياردير في المغرب هو الأمازيغيّ عزيز أخنوش؛ والقيادات السياسيّة الكبرى في البلاد أمازيغ: محند العنصر، وقبله المحجوبي أحرضان، ومحمود عرشان، وسعد الدين العثماني (المعيَّن من طرف الملك لتشكيل الحكومة المغربيّة الجديدة). ومنذ مدّة، عُقدتْ ندوة في موضوع حقوق الإنسان في الرباط، وعُلّقتْ لافتة كتب عليها: "99 بالمائة من ضحايا سنوات الرصاص هم أمازيغ!" فلنفترضْ أنّ الرقم صحيح جدًّا، لكنْ مَن كان يَقتل هؤلاء الأمازيغَ وينكِّل بهم؟ أليس الجنرال محمّد أوفقير، ذلك الرجل الأمازيغيّ القحّ؟ أليس محمد عرشان، ابن لغتهم وثقافتهم؟ ومَن هو حسين جميل [أوّلُ مدير للمخابرات المدنيّة]؟ أليس أمازيغيًّا، لسانًا وهويّة؟ هؤلاء الجلّادون والمجرمون كانوا كلُّهم من الأمازيغ.
أمّا عندما نتحدّث عن الأمازيغ المتصهينين، فنحن نقصد بهم أولئك الذين ذهبتْ بهم الوقاحة إلى تقديم التعازي في جزّار صبرا وشاتيلا، المقبور شارون، الذي هاجمتْه بعضُ الأوساط الصهيونيّة نفسها جرّاء تاريخه الأسود في محرقة غزّة؛ هذه المحرقة التي وجدنا من الأمازيغ مَن ينحني تبجيلًا لصانعيها من خلال بيانٍ أصدره "مركز تنزرت للتنمية والحوار" تضامنًا مع "الشعب الإسرائيليّ الشقيق" ضدّ "إرهاب" حماس!(3)
هنا، في الدار البيضاء، صحفيٌّ في محطّة إذاعيّة مغربيّة شهيرة، يستقبل في برنامجه الحواريّ رجالاتٍ في السياسة والاقتصاد من كلّ الألوان والأطياف، وأعني به غابرييل بانون. بانون كان مستشارًا لقائد سلاح الجوّ الإسرائيليّ أيّام العدوان الثلاثيّ على مصر.(4) ماذا يفعل هذا المجرم في المغرب؟ وما هي الأدوار المُسندة إليه؟
لهذا السبب قلتُ إنّ مسألة الهويّة مفتعلة. فالخطر الصهيونيّ لم يعد مقتصرًا على ما تقترفه الآلةُ العسكريّة في فلسطين، وفي البلدان المجاورة لها، بل أصبح يهدّد استقرارَنا في المغرب، ويهدّد تماسكَنا الاجتماعيّ في إطار الوحدة الترابيّة التي تحدّث عنها الأخ أيت باحسين.
سفيرُ الولايات المتّحدة الأميركيّة في المغرب قطع أكثرَ من 600 كيلومتر ليصلَ إلى منطقة أرفود الصحراويّة، ويقابلَ مديرَ الملحون في الراشيديّة وينصحَه بأن يكتب إعلانًا يقول فيه إنّ أصحابَ البشرة السمراء مثله يعانون التمييزَ العنصريّ في المغرب، وإنّ السبب في ذلك آية قرآنيّة تقول "يومَ تبيضُّ وجوهٌ وتسْودُّ وجوهٌ" (آل عمران، 106)!
لنتأمّل الدستورَ المغربيّ اليوم، ونرى كيف دُمج المكوّنُ العبريّ ضمن مكوّنات الهويّة المغربيّة. هذا المكوّن نعتزُّ به وبرموزه التي دفعتْ أرواحَها في سبيل البناء الديمقراطيّ للمغرب. يكفي أن نذكر جاكوب كوهن؛(5) وسيون أسيدون، صديقَ القضيّة الفلسطينيّة وعضوَ حملة BDS العالميّة لمقاطعة "إسرائيل"؛ وإدمون عمران المالح، الذي رفض أن تُترجمَ أعمالُه الأدبيّة إلى العبريّة؛ وإبراهام السرفاتي، المدافعَ المستميت عن الحقّ الفلسطينيّ. هؤلاء، وغيرُهم، هم المغاربة الأقحاح الذين ظلّوا متشبّثين بقيم المواطنة السامية. لكنّ كيفيّة دمج المكوِّن العبريّ اليوم في الدستور المغربيّ تطرح ألفَ سؤال وسؤال؛ فإدريس اليزمي الذي يقود مؤسّستيْن دستوريّتيْن وطنيّتيْن كبيرتيْن (ولا نعْلم مَن أسندَ له هاتين المهمّتين الخطيرتين في الوقت نفسه!) يصرّح، في موضوع المكوّن العبريّ ضمن الهويّة المغربيّة، بأنّ حوالي مليون يهوديّ من أصل مغربيّ يقيمون في دولة "إسرائيل،" وأن علينا أن نثمّن علاقتَنا بهم وأن نستقبلَهم في بلدهم المغرب ونطبّعَ معهم. وبناءً على هذا التصريح، نحن ملزمون دستوريًّا اليوم بفتح قنوات الاتّصال مع الجنرال غادي إيزنكوت، رئيسِ أركان الجيش الإسرائيليّ، وصاحبِ "عقيدة الضاحية،" لأنّ دستورنا المغربيّ يشرّع لنا تثمينَ علاقاتنا مع هؤلاء المجرمين لكونهم مغاربة. وبهذا المعنى سيحقّ، غدًا، لإيزنكوت أن يترأّس البرلمانَ المغربيّ! ولا أخفيكم بأنّنا نملك شرائطَ مصوّرةً لسام بن شطريت، رئيس "الاتحاد العالميّ لليهود المغاربة،" وهو يتردّد على المغرب مرّاتٍ عديدةً في السنة، ويلتقي بزعماء الأحزاب السياسيّة المغربيّة، بما فيها أحزابُنا الوطنيّة التاريخيّة، وبعضُهم يوسَم بوسام من طرف زعماء الكيان الصهيونيّ! لذلك أقول لك، سيّدي عارف، إنّ المغرب في خطرٍ حقيقيّ، وإنّ الكيان الصهيونيّ هو رأسُ الأفعى في المخطّط الشرير الذي يُحاك ضدّ بلدنا.
عارف: لا أدري لماذا أُحسّ بأنّ القضيّة ليست مفتعلة، وأنّ ما تقوله اليومَ عن مخطّطات لتقسيم المغرب ليس إلّا تضخيمًا لـ"نظريّة المؤامرة" التي شبعنا من ترديدها كلّما أردنا الخوضَ في إصلاح حقيقيّ.
ويحمان: إنّ قضيّة الأمازيغيّة قضيّة مفتعلة مائة بالمائة.
عارف: بمعنى أنّ المغرب في خطر وعلينا أن نهبّ لـ...
ويحمان (مقاطعًا بقوّة): سيّدي، إنّني أحدّثكم من خلال معطيات مكتوبة ومرئيّة. ولقد قدّمنا، كـ"مرصد لمناهضة التطبيع مع الكيان الصهيونيّ،" مقترحَ قانون "لتجريم التطبيع." وكانت قد تبنّته أربعُ كتلٍ برلمانيّة أساسيّة في المشهد التشريعيّ والسياسيّ في المغرب، وهي: حزبُ الاستقلال، وحزبُ العدالة والتنمية الحاكم، والاتّحادُ الاشتراكيّ، وحزبُ التقدّم والاشتراكيّة. لكنْ، خرج لنا رجلٌ لا ملامحَ سياسيّةً أو فكريّةً له، ولا يمثّل شيئًا في مدينة مراكش، اسمُه كودوش،(6) وقال في تصريح ناريّ: "مَن يحسبون أنفسَهم أولئك الذين قدّموا المقترحَ؟" وأقسَمَ أنّ هذا المقترح لن يمرّ في البرلمان! وكان قد اتّصل بي بعضُ الأصدقاء للتعليق، فتساءلتُ: "مَن يَحْكم المغرب؟ الكتل السياسيّة الوازنة، أمْ شخص مجهول اسمُه كودوش؟" لكنّ هذا الشخص النكرة استطاع أن يُوقف المقترَح. ألا يكفي هذا دليلًا على حجم الاختراق الذي نعيشه؟
وأضيف: ما الذي يمثّله نور الدين عيّوش، الذي يتزعّم الآن حملة التدريس بالعاميّة المغربيّة بدلًا من العربيّة، وقُدّمتْ إليه الإمكانيّاتُ كافّةً؟(7) عيّوش وحده ليس قادرًا على فتح ثقبٍ في حائط بيته، لكنّه يستقوي على إرادة المغاربة بدعمٍ من جهاتٍ فرنكوفونيّة نافذة في المغرب. ولا ننسى أنّ المشروع الذي يدافع عنه عيّوش الآن هو المشروعُ الذي كان يتبنّاه المقيمُ العامّ الفرنسيّ، في عهد الحماية، الجنرال ليوطي. فما الذي يعنيه التدريسُ بالعاميّة؟ يعني مسألةً واحدة: فصل المغرب عن ثقافته وتاريخه العربيّين.
جمال بندحمان: أودّ أن أبدأ من نقطةٍ تتعلّق باستحضار التاريخ. التاريخ مختبرُ السياسة، لكنّ المقاربة التاريخيّة تسيَّر بالمقاصد. ومن أمثلة ذلك القولُ إنّ المغرب "بلدُ الفرص الضائعة": الأولى حين لم "يستوعِب" المغاربةُ أنّ الاحتلالَ الروماني كان ذا طبيعةٍ حضاريّةٍ، فقاوموه؛ والثانية حين اعتنقوا الإسلام؛ أمّا الثالثة فهي حين "سقط المغرب ضحيّةً للهجمة البربريّة لبني هلال." أركّز هنا على منطق المعالجة؛ فكما أنّ البعض يطالب بإرجاع اليمنيين إلى بلادهم، فإنّ البعض الآخر يطالب بضرورة إرجاع العرب إلى الجزيرة العربيّة باعتبارهم مستوطنين للأرض المغربيّة الأمازيغيّة!
لهذا، أشرتُ إلى أهمّيّة "السياق" في بداية هذه الندوة. وأوافق على الكثير ممّا جاء في مداخلة الأخويْن ويحمان ورشيد. فنحن، عندما نتحدّث عن التسعينيّات (زمن أحداث العراق)، كانت كلُّ القوانين المتعلّقة بـ"الحقوق اللغويّة والثقافيّة" مثارَ نقاش وتداول. وإذا تأمّلنا جيّدًا في المصطلح، نراه يتضمّن إشكالًا عميقًا؛ إذ لماذا نميّز الثقافيَّ عن اللغويّ؟ وإذا كان هنتنغتون أشار إلى أنّ الحضارة هويّةٌ ثقافيّة، فإنّ إخراج اللغة يعني أنّها قد تُستخدم في توظيفٍ مختلف. ليس عيبًا أن يكون لدينا تعدّد لغويّ وثقافيّ وإثنيّ، لكنّ المشكلة ألّا نجد وسيلةً لتدبيره ضمن الأطر الديمقراطيّة المتاحة، فيُستثمر بعيدًا عمّا يوحي به من مضامين إيديولوجيّة. علينا أن نكون على وعيٍ تامّ بالفخاخ الكبيرة المنصوبة لنا. إنّنا ندافع عن قضيّةٍ هي في أساسها مشروعةٌ ومقبولة، لكنّنا نجهل الخلفيّاتِ المؤسِّسةَ لها، ولا نعرف، من ثمّ، إلى أين تسير بنا.
بالنسبة إلى الهويّة المعطاة والهويّة المبنيّة، فأنا شخصيًّا مِن الذين يدافعون عن الهويّة المبنيّة، لكنّني أسأل دومًا عن الجامع بين مكوّناتها. أهو الدين؟ لكنّ الدين لم يعد مسألةَ إجماعٍ بين كلّ المغاربة. أهو الجغرافيا؟ لكنّ الخريطة التي قدّمها ويحمان تدعو إلى الشكّ والحيطة من الجغرافيا التي هي قابلةٌ للتفكّك في أيّة لحظة. أهو المواطنة؟ لكنّ ذلك يستدعي رزنامةً من الحقوق والواجبات والانتماءات.
نحن مع الهويّة المبنيّة، لكنّ علينا أن نتوافقَ على اللاحم. ويجب عدمُ الاعتماد على الدستور فقط، لأنه لم يَحسم ــــ هو نفسُه ــــ في مسألة الهويّة. وهذا ما يبرِّر تخوّفَ بعض الإخوة في هذه الندوة من الاحتراب الهويّاتيّ، الذي قد يغذّيه مخطَّطٌ دوليّ حقيقيّ. ويمكننا أن نستشهد ببعض المحطّات التي كان فيها المغرب على شفا اشتعال نار حربٍ هويّاتيّة: الحرب التي استعر أوارُها أثناء التداول في شكل الحرف الأمازيغيّ؛ الحرب بين الحداثيين والإسلاميّين حول "مدوّنة الأسرة"؛...
أختمُ بالجانب المتعلّق بمسألة الانتقال الديمقراطيّ، وأشير إلى أنّ الدراسات التي أُنجزت حول تجارب هذا الانتقال في العديد من الدول قد وَضعتْ مجموعةَ مقوّمات لتحقيقه. فهل التجربة المغربيّة تخضع لهذه المقوّمات؟ وهل يمكن أن ندّعي أنّنا نعيش انتقالًا ديمقراطيًّا؟ مشكلتنا في المغرب أنّنا نعيش انتقالًا ديمقراطيّا مفصّلًا على مقاسات المخطِّطين له، لا استجابةً لتعبيراتٍ مجتمعيّة ولحركيّةٍ داخليّةٍ عميقة. لهذا أخلص إلى القول إنّ المغرب لا يعيش أزمة هويّة، وإنّما أزمةَ اختيارات، ومن بينها الخيار الديمقراطيّ.
الحسين أيت باحسين: أودّ أن أطرح خمس نقط أعتبرُها اقتراحات. أولًا، أبدأ بسؤال اللاحم. فنظرًا إلى كون المجتمع المغربيّ يتميّز بالتنوّع والتعدّد، فإنّ علينا أن نحدّد ماذا نبغي منهما: هل نريد أن نبني بهما مجتمعًا ديمقراطيًّا، أمْ مجتمعًا طوائفيًّا، كلُّ طائفةٍ تنغلق فيه على ذاتها وتُقصي الآخر بداعي الخوف على هويّتها وخصوصيّتها؟ إنّنا مدعوون إلى إعادة تهيئة التعدّد لينسجم مع التنوّع الذي نحظى به، لا الزجّ بهما في أتون الفولكلور وقتل روحهما بتكريسهما واجهةً للترويج السياحيّ؛ بل علينا أن نربطهما برؤيتنا الشاملة للتنمية المستدامة. إذًا، ولأنّ الهويّة المغربيّة مبنيّة ومركّبة، فإنّها تستلزم التركيبَ وفق منطق أرسطو، الذي لم يكن يهتمّ بالحدود، وإنّما يرى العلاقة بين هذه الحدود كلّها، اللغويّة والثقافيّة والاجتماعيّة والفئويّة والاقتصاديّة. ومن داخل هذه العلاقة، يجب أن ندبّر سؤالَ الهويّة والعيش المشترك لنا، ولأجيالنا المستقبليّة.
ثانيًا: من آليّات اللاحم في الهويّة المبنيّة الاعترافُ بالآخر؛ فمن دون هذا الاعتراف يستحيل العيشُ المشترَك. أنا مع الهويّة الوطنيّة الجامعة، لكنْ إذا لم تعترف بي وبهويّتي الخصوصيّة، فلا أساس لأيّ شيء!
ثالثًا: من آليّات اللاحم أيضًا تثبيتُ الخصوصيّات في إطار السياسة الجهويّة التي انتهجها المغربُ ودستَرَها.
رابعًا: نعيش في المغرب أزمة تفكير في الهويّة المبنيّة، وكيفيّة تجاوز الهويّة المعطاة. وهذه الأزمة تستلزم تفعيلَ مبدأ التشارك الذي يتسابق نحوه الكلّ، ويريده جزءًا من المشروع الوطنيّ الديمقراطيّ الحداثيّ.
خامسًا: أعتقد أنّ الكثير لا يعرفون مسارَ تطوّر النقاش حول مسألة تيفيناغ. فبعد الدورة الرابعة في أكادير عن "اللغة والثقافة والهويّة" (آب 1991)، بدأنا نطرح على أنفسنا سؤالًا حيويًّا: إذا كنّا، كجمعيّات أمازيغيّة، نطالب الدولةَ والمجتمعَ بحقوق ثقافيّة ولغويّة مصيريّة لمستقبل المغرب، فعلينا أن نبذل جهدًا من أجل التهيئة اللغويّة. وعلى هذا الأساس، جاء تأسيسُنا لـ"لجنة معمورة،" التي اجتمعتْ فيها أطيافٌ من كلّ الحركات الأمازيغيّة، ومن كلّ جهات المغرب، بمن في ذلك متخصّصون في الدراسات اللسنيّة والصوتيّة واللغويّة والتاريخيّة. ومكثنا أسبوعًا نناقش فيه المسألة اللغويّة، ونقارن بين كتابة الأمازيغيّة بالحرف العربيّ وكتابتها بالحرف اللاتينيّ وكتابتها بحرف تيفيناغ. ووجدنا أنّه إذا كُتبت الأمازيغيّةُ بالحروف اللاتينيّة فسنحتاج إلى إضافاتٍ قد تغيِّر معنى الحرف ونطقَه، ما سيشوّش على المتعلّم المغربيّ بيداغوجيًّا؛ في حين أنّ كتابتها بالحروف العربيّة لن تستقيمَ لأنّ الأمازيغيّة والدارجة المغربيّة متشابهتان من حيث الجانب الفونيتيكيّ والنسق التركيبيّ، الأمرُ الذي لا يستقيم وطبيعةَ اللغة العربيّة ونسقَها التركيبيّ. من هنا، اخترنا حرفَ تيفناغ، أوّلًا من حيث مبدأ الاقتصاد، وثانيًا لأنّه حرفٌ غير موجود في أيّ مكان في العالم سوى في شمال إفريقيا الناطقة بالأمازيغيّة. إذًا، هناك جانبٌ بيداغوجيّ، وجانبٌ هويّاتيّ، وراء اختيارنا لحرف تيفيناغ، ولم ننطلق من مبدأ إيديولوجيّ في اختياراتنا.
الإدريسي: نحن نتحدّث عن الرغبة في بناء هويّة متوازنة وواقعيّة، لكنّ ما سمعناه الآن يؤكّد أنّ موضوع الهويّة يخلق العديدَ من الإشكاليّات والصدامات. غير أنّ ما يجعلنا مطمئنّين هو أنّ هذا الصدام محصورٌ في النخبة المثقّفة، ولم يتسرّبْ إلى القواعد الشعبيّة.
قلتُ في البدء إنّ هناك بعضَ الاختيارات غير الواقعيّة، وقدّمتُ المسوِّغات. وأقول لأخي الحسين إنّ اختيار حرف تيفيناغ كانت وراءه دواعٍ إيديولوجيّة. فقد قال لي أحدُ ممثّلي الحركة الأمازيغيّة: "إنّ الحرف الذي تدافع عنه (ويعني طبعًا الحرفَ العربيّ) قد أعطيناه صفرًا من الأصوات"؛ وقال ذلك وهو غاية في الانشراح والبسط! ومَن عاش الأحداثَ عن قرب يعرف أنّ الحرف الذي نال أكبرَ القبول هو الحرفُ اللاتينيّ، لكنّ ما غيّر مجرى كلّ شيء هو التدخّل الحاسم من أعلى سلطة في البلاد، إذ اعتبرتْ هذا الاختيارَ خرقًا دستوريًّا. وأنا أحيلكَ على أجواءِ ما قبل اختيار حرف تيفيناغ. خذ مثلًا المقالات العديدة التي كان يكتبها الأستاذ محمّد بودهان، وكلّها قدحٌ في حرف تيفيناغ، وإشارةٌ إلى أنّ في اختياره قتلًا للغة الأمازيغيّة. ثمّ تغيّرت الأحوالُ وفق إكراهاتٍ أكبر من كلّ الجمعيّات والتيّارات الأمازيغيّة داخل البلاد.
اللغة العربيّة أساسيّة ولا يمكن تجاوزُها. ومَن يقُل إنّ لغة البلد هي الأمازيغيّة يجهل تطوّر التاريخ، ويجهل قيمةَ اللغة العربيّة في تأسيس المغرب. ولكم مثالٌ في كتاب البيدق، وهو مصدرٌ مهمٌّ من مصادر تاريخ الأمازيغ المغاربة، لكنّنا لا نجده إلّا بالعربيّة. أضف إلى ذلك أنّ العديد من الأعلام الأمازيغ أبدعوا بالعربيّة.
أيت باحسين: معنى كلامك، أخي رشيد، أنّ الأمازيغيّة محرّمة؟!
الإدريسيّ: لم أقل هذا إطلاقًا. فمن حقّ كلّ التعبيرات الوجودُ والإفصاحُ عن ذاتها في ظلّ هويّة متعدّدة ومركّبة، لكنْ ليس على حساب اللغة العربيّة، التي هي لغة رسميّة ووطنيّة لا يُعلى عليها. مَن أراد أن يحقّق وجودَه، وأن يعبّر عن نفسه وطنيًّا، فعليه أن يقوم بذلك بعيدًا عن النيل من اللغة العربيّة. ثمّ إنّنا نتحدّث عن اللاحم في هويّتنا المغربيّة، والعربيّةُ أكبرُ لاحمٍ وأمتنُ لاحم. لقد كان إخوانُنا الأمازيغ يدافعون عن التنوّع اللغويّ والثقافيّ في المغرب، فما بالهم اليوم يدافعون عن مبدأ مَعْيَرة اللغات أو اللهجات الأمازيغيّة؟ أليس في ذلك قتلٌ لهذا التنوّع؟
أيت باحسين: وهل اللغة العربيّة غير مُمعيرة؟ اذكرْ لي لغةً واحدةً في العالم لم تخضع للمَعْيَرة. لماذا يجوز لكلّ لغات العالم أن تمرّ بمرحلة التهيئة اللغويّة إلّا الأمازيغيّة، التي تريدون أن تُبقوا عليها في متاحف الفولكلور؟
الإدريسي: ما نخاف منه هو أن تكون معيرةُ هذه اللغة على حساب العربيّة أو لتصفية الحساب معها. ما معنى أن يقول أحدُ رموز الحركة الأمازيغيّة، الأستاذ محمّد شفيق، إنّهم عندما يصادفون لفظةً أمازيغيّةً ذاتَ أصل عربيّ فإنّهم يستبدلونها بلفظةٍ أخرى، قد تكون من لغة الطوارق أو من مالي أو حتّى من الشيشان، لكنّ المهم ألّا تكون عربيّة؟! كيف نفسّر هذا الموقفَ المعادي للعربيّة؟ أليس في هذا نوعٌ من ممارسة النقاء الإثنيّ والعرقيّ واللغويّ الذي تحدّث عنه الكثيرُ من معارضي التصوّرات العنصريّة؟
الحسين أيت باحسين: أشكّ في أنّك متابعٌ لما يجري في موضوع الأمازيغيّة. وأدعوكَ إلى مراجعة أفكارك.
الإدريسي: أزعمُ أنّي متابع دقيق لموضوع الأمازيغيّة، ولكلّ خيوط المؤامرة التي تُحاك ضدّ كلّ ما يمتُّ إلى العربيّة، لغةً وحضارةً ووجدانًا. ثمّ إنّني لستُ متطفّلًا على الموضوع، وإنّما أنا دارس أكاديميّ أقدّر الأشياءَ بحسّ نقديّ وعقلانيّ، لا بوازع وجدانيّ أو عقديّ أو عرقيّ.
ستظلّ الهويّة موضعَ نقاش. وهذه الأشياء التي تطرحونها سبق أن طُرحتْ مع "كوليج أزرو،"(8) ومع الاستعماريين الفرنسيين، باللهجة نفسها وبالأفق ذاته. إنّ حرف تيفيناغ، الذي تدافع عنه، يا سيّدي، بطريقة غريبة، لم يُذكر في التاريخ، ولا كُتبتْ به صفحةٌ واحدة. فهل تعتقد أنّنا سنواجه العالمَ، والحداثةَ، وما بعد الحداثة، والعولمة، بحروفٍ لا تاريخَ لها؟!
الحسين أيت باحسين: أنت تحرّف الموضوع الذي جئنا من أجل مناقشته، وتدفع بالندوة في اتّجاه الصراع المجّانيّ. إنّنا هنا لنناقش مسألة الهويّة ضمن أفق العيش المشترك. وأنت لا تفعل سوى أن تسردَ علينا مواقفَ فلان وعلّان، وتحاول أن تعمِّمَها على الحركات الأمازيغيّة.
رشيد الإدريسي : ما قلته يسري على كلّ المغاربة بلا استثناء؛ فكلُّهم لهم ذاكرةٌ تختزن آلامًا ومظالمَ يمكن الوقوفُ عليها باستقراء التاريخ القريب والبعيد. وهذا النوع من تأسيس الهويّة مرفوض لأنّه لا يَستحضر من الماضي إلّا الأحداثَ التي تُتَّخذ أساسًا لإثارة الصراع في الحاضر؛ وهذا ما تسمّيه الباحثة الفرنسيّة إيستير بنباسّا "الآلامَ في وصفها هويّةً" وذلك بالنسبة إلى اليهود على وجه الخصوص.
إنّ الخطاب الأمازيغيّ يعمل على استحضار الألم والتركيز على المظلوميّة وسيلةً لتماسك مكوِّن مغربيّ ضدّ مكوِّن آخر، هو المكوِّن العربيّ. والرؤية الموضوعيّة النزيهة تكشف عن خلفيّات هذا الخطاب الخطيرة، وعن أهدافه السياسيّة الرامية إلى قراءة التاريخ من زاوية "ظالمٍ ومظلوم،" بينما في التاريخ الحقيقيّ تتبادلُ كلُّ الأطراف الأدوارَ باستمرار.
جمال بندحمان: لا يمكن أن نطالب أحدًا بأن يتكلّم بالطريقة التي تحلو لنا. أعتقد أنّ مقاربة رشيد الإدريسي تظلّ من المقاربات المطروحة في المشهد الثقافيّ المغربيّ، ويجب التعاملُ معها بروح النقد والمساءلة، لا بطريقة الإقصاء والتهميش. ثمّ إنّ الاستشهاد بالأشخاص مقبول ما داموا فاعلين في المشهد الثقافيّ الوطنيّ وفي الحركات الأمازيغيّة.
أحمد كافي: سأتحدّث في مسألة الهويّة والبناء الديمقراطيّ لكي أبتعد بالندوة قليلًا عن الجوّ المتوتّر. وأقول، بدءًا، إنّ أمّ الانتكاسات التي تشهدها التجاربُ الديمقراطيّة هي الهويّة، وإنّ النجاحات الباهرة في التجارب الديمقراطيّة سببُها الهويّةُ أيضًا.
إنّ أهمّ ورشٍ علينا جميعًا الانخراطُ فيها هي ورشةُ البناء الديمقراطيّ، واجتثاث أصول الاستبداد الذي يجهد في تأجيل موعد البناء الديمقراطيّ عبر خلق الفتنة بين الأطراف المتحاورة. والقرآن، عندما أراد أن يصوِّر نموذجَ الاستبداد، اتّخذ نموذجَ فرعون، فقال تعالى: "إنّ فرعون علا في الأرض وجعل أهلَها شيعًا يستضعفُ طائفةً منهم يذبِّحُ أبناءهم ويستحْيي نساءهم إنّه كان من المفسدين." إنّ آليّة اشتغال الاستبداد هي التفريقُ بين الناس على أساس الملّة أو العقيدة أو اللون أو اللغة. وإلّا، ففسّروا لي كيف كنّا في المغرب نناقش مسألة الانتقال الديمقراطيّ، فإذا بنا ننتقل بسرعة البرق لنخوض في مسألة البرقع؟! من المستحيل أن يكون ما يجري بيننا اليوم محضَ مصادفة. وقد أشار الأستاذ ويحمان إلى ذلك بالتفصيل في مداخلته.
يتحدّث الأخ عارف عن الدين، ويقول إنّه يجب ألّا يوظَّف في الحياة العامّة. أنا خطيب وعضو المجلس العلميّ، أفلا يحقّ لي أن أصعدَ المنبرَ وأخطبَ في الناس عن الانتخابات ودورها في البناء الديمقراطيّ؟
لبيض: عندما تخطب في الناس في موضوع الانتخابات، وأنت معروفٌ بانتمائك إلى "حزب العدالة والتنمية،" فمعنى ذلك أنّك توجِّهُهم. ولا تنسَ أنّ لك تأثيرًا قويًّا على عدد كبير من المصلّين الذين يصطفّون وراءك. فمن المؤكّد أنّك عندما تتحدّث عن الانتخابات، فالناس لن يذهب ذهنُهم إلى المرشّح اليساريّ، بل الإسلاميّ.
كافي: عندما أتحدّث عن الانتخابات أقول للناس اختاروا الذي تروْنه صالحًا.
لبيض: هنا خلطٌ بين الدعوة والسياسة. أنت عضو في حزب العدالة والتنمية. ولمّا كنتَ، أيها الشيخ الجليل، تنتمي إلى هذا الحزب، فلا بدّ من أن يكون حزبُكَ في نظر المصلّين هو "الأفلح والأصلح." كان الأحرى بك أن تتنحّى أيّام الحملة الانتخابية عن أداء الخطبة رفعًا لكلّ لبس!
كافي: حزب العدالة والتنمية لحظة صغرى في سيرورة البناء الديمقراطيّ الكبرى. ثمّ، أليس حيفًا أن نسمحَ لكلّ أطياف المجتمع بالحديث عن الانتخابات إلّا الخطيب والعالم الجليل؟
لبيض: أبدًا.لا يمكن منعُ عالِم من المشاركة في النقاش حول البناء الديمقراطيّ. لكنّك تحمل يافطةَ حزب، وتستخدم المساجدَ لترويج لونه السياسيّ.
كافي: وما الذي يمنعكم من أن توظّفوا الدينَ مثلَنا؟!
عارف: عندما كنّا نخوض الحملة الانتخابيّة كيساريين، كنّا نواجَهُ بخطابِ إقصاءٍ يوظِّف أحكامَ قيمةٍ جاهزة: كالإلحاد والفسق والفجور. هذا هو التوظيف السلبيّ للدين، وهو ما نرفضه. أمّا أن يوظَّفَ الدينُ كقيمة أخلاقيّة في مجال تطهير العمل السياسيّ، فلا أحد منّا يرفض ذلك.
كافي: لا أعتقد أنّنا ما زلنا نعيش ذلك الهاجس المخيف لتوظيف الدين في المجال السياسيّ. ثمّة نضج سياسيّ عند العديد من الحركات السياسيّة الإسلاميّة التي بدأتْ تنسجم وطبيعةَ الفعل السياسيّ المدنيّ المحترف والبراغماتيّ. ألا تروْن أنّ حزبا يساريًّا شيوعيًّا (حزب التقدّم والاشتراكيّة) يتحالف مع حزبٍ ذي مرجعيّة دينيّة (حزب العدالة والتنمية)؟ لا يمكن الحديث عن انسجام كلّيّ بين الحزبين في المرجعيّات السياسيّة، لكنّهما توصّلا إلى أنّ العمل السياسيّ التوافقيّ هو المَخرج، وهو المؤسِّس للبناء الديمقراطيّ.
ويحمان: ليتني أمتلك مبرِّراتِ التفاؤل. غير أنّ التحليل المنطقيّ للواقع يؤشّر إلى أنّنا نسير نحو الهاوية. والحلّ الوحيد لتلافي الهاوية والخراب هو تداركُ ما فات بأقلّ الخسائر. إنّ المخطَّط الذي وُضع للمغرب يتأهّب للدخول في مرحلة التنفيذ. وأذكر أنّني كنتُ ضيفًا على قناة الميادين في برنامج "آخر طبعة،" لمُعدّته ضياء شمس، وقلتُ لها: "ما هي إلّا أيّام وستحترق غرداية الجزائريّة." وبالفعل وقع ما توقّعتُه في أقلّ من شهر. وكانت الحصيلة المئات من الجرحى والقتلى.(9) فهل ما قلتُه يدخل في باب التنجيم؟ إطلاقًا. بل جاء نتيجةً لتتبّعٍ دقيقٍ لما يجري في الكواليس، وما يدبَّر من مكائد لهذا البلد المهدَّد ــــ هو كذلك ــــ بالتجزئة والتقسيم. قضيّة الشهيد محسن فكري،(10) الذي مات مسحوقًا داخل شاحنة لنقل النفايات المنزليّة في مدينة الحسيمة، أفرزتْ مشهدًا مشحونًا بأسئلة الهويّة. وعلينا أن نستوعب الدرسَ ممّا جرى في قضيّة محسن، وقبله عمر إيزم في آيت عطا، ونتساءل: لماذا جرى ما جرى في هذه المناطق الأمازيغيّة بالتحديد؟ على كلّ الفاعلين، وكلّ مكوّنات البلاد والمهووسين بقضايا الهويّة، أن يستوعبوا خطورة الوضع، وأن يدركوا أنّ الوضع لا يحتاج سوى إلى شرارةٍ صغيرةٍ لتنفلت الأمورُ من القمقم، وتبيتَ البلادُ على صفيح الفتنة. ويجب أن ندرك أنّ الخبراء والعملاء يعملون ليلًا ونهارًا على تزويد الجهات المخابراتيّة الدوليّة بكلّ صغيرةٍ وكبيرة.
لبيض: أشكركم على حضوركم وإغنائكم للنقاش. وأعتقد أنّ العيش المشترك قد تجلّى في مائدتنا المستديرة هذا المساء، على أمل أن تنعم به أمّتُنا العربيّة من محيطها إلى خليجها.
* ملاحظة الآداب: المخزن هو النخبة الحاكمة في المغرب، المتمحورة حول الملك (أو السلطان سابقًا). راجع مثلًا: https://goo.gl/0CpR2t
** ملاحظة الآداب: تمْكن العودة إلى مراجع كثيرة للتوسّع في فهم ما يسمّى "الظهير البربريّ." هنا أحدُها: https://goo.gl/LgpJyG
1- المناطق المعرّبة في المغرب هي كلّ المناطق التي لا تتحدّث الأمازيغيّة.
2- http://www.alarabiya.net/articles/2012/05/22/215671.html
3- http://www.hespress.com/tendances/236439.html
5- https://www.youtube.com/watch?v=ktElSSY_zDQ
7- http://www.hespress.com/orbites/262389.html
8- كوليج ازرو: مؤسّسة تعليميّة أسّسها الاستعمارُ الفرنسيّ لتدريس الأمازيغيّة في مدينة ازرو في منطقة الأطلس الأمازيغيّة، حيث كانت تدرس الأمازيغيّة بالحروف اللاتينيّة، إضافةً إلى تدريس الفرنسيّة. وكانت الغاية من هذه المؤسّسة تخريج ضبّاط ومثقفين فرنكوفونيين، وقد تخرّج منها فعلًا كبارُ جنرالات الجيش المغربيّ، وعلى رأسهم الجنرال اوفقير الذي أعدمه الملك الحسن الثاني بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في سبعينيّات القرن الماضي.
أستاذ باحث، مراسِل مجلّة الآداب في المغرب.
حوار مع البروفيسور عبد القادر الفاسي الفهري: الفصحى، اللهجات، الفرنسيّة، الأمازيغيّة