صحافيّ وأكاديميّ فلسطينيّ.
هنالك نمطٌ من العمل الشبابيّ الجديد أخذ يتبلور مؤخّرًا في السياق الفلسطينيّ القائم، حتى بات ظاهرةً لافتةً، نَفترض أنّ لها دلالاتِها الاجتماعيّة والسياسيّة التي سنحاول الوقوفَ على أبرز معالمها، وقراءةَ آفاق المستقبل أمامها وعلاقتِها بالبنية السياسيّة الاجتماعيّة الفلسطينيّة القائمة، واحتمالاتِ تأثيرها فيها أو تأثّرها بها. فالجدل بينهما، على ما يبدو، لا مفرّ منه، خصوصًا أنّ ظاهرة هذا العمل الجديد تأتي ــــ في رأينا ــــ واحدًا من تمظهرات أزمة هذه البنية. انه جدل المركز بالهامش، والهامش بالمركز.
ولكنّنا سنقرّ منذ البداية بأنّ مهمّة دراسة الأشكال المذكورة ليست سهلةً على الإطلاق، وذلك لسببين: ذاتيّ وموضوعيّ.
أمّا السبب الذاتي، فيعود إلى أنّ هذا العمل الجديد مازال في طور التشكّل، ومرّ بثلاث مراحل (سنتطرّق إليها لاحقًا)، ومن ثمّ فإنّ إطلاق أحكام واثقة على موضوعٍ متحرّكٍ حتى الساعة يُعَدّ مغامرةً. ويزيد الطينَ بلّةً غيابُ النسق التنظيميّ الإداريّ عن أشكال هذا العمل الشبابيّ؛ فهو هُلاميّ، يفتقر إلى الهيكليّة والقيادة، وإلى الأدبيّات التي تُعرّف به.
أمّا السبب الموضوعيّ فيتمثّل في السياق الفلسطينيّ الهشّ، القابلِ للتحوّل (الجذريّ) في أيّة لحظة. ولمّا كنّا قد افترضنا، منذ البداية، أنّ هنالك جدلًا قائمًا بين البنية السياسيّة ــــ الاجتماعيّة وهذا العمل الجديد، أو ما بين الهامش والمركز، فإنّ تحوّلات السياق ستؤثّر حتمًا في الظاهرة التي تتشكّل خارج هذا السياق من دون أن تكون قد استقلّت عنه تمامًا.
لهذين السببين نفضّل أن نطلق على هذه الظاهرة اسم "العمل الشبابيّ الجديد،" من دون إعطائه صفةً محدّدة، كالوطنيّ أو الاجتماعيّ أو التنمويّ.
وبناءً على ذلك، سنحاول مناقشة هذا العمل ضمن ثلاثة محاور رئيسة:
أولًا: ماهيّته.
ثانيًا: السياق التاريخيّ الذي أفضى إلى ظهوره.
ثالثًا: مستقبله، وعلاقته بالحالة السياسيّة القائمة ومكوّناتها.
الماهيّة
هذا العمل الجديد هو عبارة عن جهدٍ شبابيّ، جماعيّ، تطوّعيّ، يهتمّ بالعمل الاجتماعيّ والثقافيّ والاقتصاديّ، كما السياسيّ. ولذلك فهو عمل نقديّ للحالة الفلسطينيّة الراهنة بشموليّة عناصرها هذه؛ ويعمل من خارج البنية الرسميّة.
وحين نقول "عملٌ جديد،" فإننا لا نتحدّث عن مجموعة بعينها؛ فثمّة مبادراتٌ مختلفة، تقترب أو تبتعد، في اهتماماتها، من السياسيّ على حساب الاجتماعيّ، أو من الثقافيّ على حساب الاقتصاديّ، وفقًا للسياق الذي تشكّلتْ فيه. ولذلك يمكن وصفُها بـ"الوطنية دون الحزبية،" إذ يعود أحدُ أسباب تبلورها (كما سنرى) إلى تقادم آليّات العمل الحزبيّ وعجزِها عن محاكاة تحوّلات الواقع واستيعابِ الشباب. وهي أيضًا "وطنيّة دون طبقيّة،" لكونها لا تقتصر على طبقةٍ بعينها، وإنْ كان معظمُ المبادرين فيها من أبناء الطبقة الوسطى. وهي أيضًا أوسعُ من التقسيمات الجغرافيّة أو الديمغرافيّة، لكونها تعمل في مساحة مشتركة بين المدينة والمخيّم والقرية. وهي، بمنطق التطوّع الخالص الذي يَحكم عملَ أفرادها، تتجاوز الفرديّة والذاتيّة إلى رحابة الجماعة.
بهذه الصفات كلّها، تمثّل هذه المبادراتُ إعادةَ صياغةٍ للهويّة الوطنيّة الفلسطينيّة الجامعة، في وجه الهويّات الفرعيّة التي نجمتْ عن السياسات النيوليبراليّة السائدة في السنوات العشر الأخيرة بشكل خاصّ.
من الانتفاضة الفلسطينية الأولى.
وعن آليّات عملها نقول: إنّها ليست محكومةً بهيكليّة، ولا قيادةَ لها، بل لا رؤيةَ مسبّقةً أو استراتيجيّة حاضرة تحكم عملَها. غير أنّها، في الوقت ذاته، ليست عشوائيّةً أو فوضويّة. إنّها أقربُ إلى نمط عمل اللجان والاتحادات الشعبيّة خلال الانتفاضة الأولى؛ وكأنّ هذا الجيل الجديد المبادِر استلهم تلك التجربة الناصعة البياض بالوعي المستند إلى الدراسة والبحث، أو حتى بوعي الفطرة.
هذا الوعي هو القاسم المشترك بين غالبيّة هذه المبادرات. كأنّ هنالك حاجةً يدركها هؤلاء الشبابُ إلى إعادة ترميم الوعي الوطنيّ الذي نخرته الواقعيّةُ المهزومة. إنّها مبادرات تدرك واقعَها، وتعترف بتعقيداته، ولكنّها ترفض التعاملَ معه كقدرٍ محتوم. لذلك فجلُّ عملها يذهب نحو الندوات والقراءات الفكريّة والتاريخيّة والسياسيّة والثقافيّة والإعلاميّة، سعيًا إلى قطيعة معرفيّة مع الواقع السائد ومع الثقافة التي تحْكمه. وهي، بفكرها هذا، منفتحة على التجربة، بحيث يتطوّر كلٌّ منها بفضل الآخر، وفقًا لجدليّة النظريّة والواقع التي لا مفرّ منها.
غير أنّ هذا العمل الجديد لا يمثّل مشروعًا سياسيًا بديلًا، وربّما لا يطمح إلى ذلك، بقدْرِ ما ينقد انحرافاتِ المشروع السياسيّ الأصليّ، ويعمل على بناء وعي موازٍ للوعي القائم. وبهذا فإنه خارج الجدل السياسيّ القائم حول "حلّ الدولة" أو "حلّ الدولتين،"وأقربُ إلى أبجديّات المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ في صيغته الأولى المنبثقة عن منظمة التحرير.
السياق التاريخيّ
أولًا: مرحلة ما قبل أوسلو (1965 – 1993). في العقود الواقعة بين إنشاء منظّمة التحرير وتوقيع اتفاقيّات أوسلو، لم تكن ثمّة مساحةُ عملٍ يمكن تصوّرُها خارج حدود هذه المنظّمة وأطرِ العمل الاجتماعيّ والثقافيّ والشبابيّ والنسويّ المنبثقة عنها؛ فقد كانت هناك بنية حزبيّة وطنيّة بأذرع عمل تشمل المواضيع والقطاعات كافّةً، وتعمل وفق برنامج إجماعٍ وطنيّ. ولذلك كانت هذه البنية قادرةً على استقطاب المبادرات المجتمعيّة، والشبابيّة على وجه الخصوص. ولم تكن هذه المبادرات لتعمل من خارج تلك البنية، بل كانت عصبَها وأساسَها.
ثانيًا: مرحلة ما بعد أوسلو وما قبل الانتفاضة الثّانية (1993 -2000). مع الدخول في"عمليّة السلام،" انفضّ الإجماعُ حول المشروع الوطنيّ بصيغته الأصليّة، وضعفت البنيةُ السياسيّةُ الوطنيّة الممثّلة في منظّمة التحرير، وتَراجع تدريجيًّا حضورُ الأحزاب الوطنيّة في الفعل النضاليّ التحرّريّ وفي أشكال العمل الاجتماعيّ والثقافيّ أيضًا. فتَراجع حضورُ كلّ الأطر الشبابيّة والعمّاليّة والنسائيّة والنقابيّة والثقافيّة، وغابت أنماطُ العمل المرتبطة بها، بل تفكّكت المفاهيمُ والقيمُ والمبادئ الموازية لها، إذ لم تكن نتاج وعي مجرّد بقدر ما كانت وعيًا يوازي الفعل. وكأنّ الوضع هنا يؤكّد لنا جدليّة الوعي بالفعل، أو أنّ الفاعل هو القادر على صياغة الوعي، وليس المنظِّر الغائب عن الميدان.
ولكنْ، هل تراجُعُ الفعل، وتفكّكُ الوعي، يعنيان أنّ حالة فراغ قد سادت، فسمحتْ بظهور أنماط عملٍ جديدة؟
الحقّ أنّ هذا الفراغ لم يحصل أصلًا، لأنّ هنالك مَن قام بملئه سريعًا. ولكنّ الفاعل، الذي قام بصياغة وعيٍ جديد يتناسب مع فعله ومرحلته، هو المؤسّسات الأهليّة هذه المرّة، والمنظماتُ غيرُ الحكوميّة (NGOs) تحديدًا. ذلك أنّ طبيعة المرحلة الجديدة المنبثقة عن "مشروع السلام،" أيْ مرحلة الانتقال من الثورة إلى الدولة، فرضتْ فاعلًا جديدًا ذا وعيٍ جديد.
هكذا غابت مفاهيمُ الثورة والتحرير والنضال والفدائيّ، وحلّت مفاهيمُ التنمية والبناء والدولة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان والناشط والخبير. والمفاهيم الجديدة ذات آليّات عمل خاصّةٍ بها، ولا تنتمي إلى آليّات العمل السابقة ولا إلى أطرها الشعبيّة والتعاونيّة.
هنالك عوامل كثيرة ساهمتْ في هذا الانتقال، السلس نوعًا ما، وكان لشخص ياسر عرفات وكاريزميّتِه والثقةِ الشعبيّة به دورٌ رئيسٌ في تحقيقه. وهكذا بات العملُ الأهليّ هو الساحةَ البديلة لاستقطاب الشباب، وباتت مفاهيمُه التي تنتمي إلى "مرحلة الدولة" هي عناصر الوعي الجديد: وعيِ ما بعد الثورة. لقد ظهرتْ بنيةٌ جديدة، بمشروع جديد، وبساحة عمل جديدة، وبآليّات عمل جديدة. ولئن لم تتمتّع هذه البنية بالإجماع الذي تمتّعتْ به البنيةُ السابقة، أيْ بنيةُ منظّمة التحرير، إلّا أنّها شكّلتْ بديلًا قادرًا على الاستقطاب.
ياسر عرفات وأبو علي مصطفى.
لم تشكّل الانتفاضةُ الثانية مرحلةً في حدّ ذاتها، وإنّما مثّلتْ جسرًا للعبور إلى المرحلة الثالثة والأخيرة من هذا السياق التاريخيّ الذي ساعد على ظهور أنماط العمل الشبابيّ الحاليّة. فقد خرجنا من هذه الانتفاضة بنتائجَ جديدة، وقناعاتٍ جديدة، وسياساتٍ جديدة، وفواعلَ جديدة، ومفاهيمَ جديدة. إذ غابت عن المشهد السياسيّ الفلسطيني ّرموزٌ قياديّةٌ من الوزن الثقيل، منهم ياسر عرفات وأبو علي مصطفى وعبد العزيز الرنتيسي؛ وهو ما عنى أنّ تحوّلاتٍ ما لا بدّ من أن تعتري المرحلةَ الجديدة على صعيد العمل الوطني ّوالسياسيّ الرسميّ.
ومن جهةٍ أخرى، فقد تراجعتْ كثيرًا الثقةُ بما يمكن أن يحقّقه "مشروعُ السلام" على صعيد القضيّة الوطنيّة. وهنا وقع الانفصالُ بين العمل الوطنيّ والعمل السياسيّ؛ فلم يعد الفلسطينيّ ينتظر أيّة "نتائج" على صعيد قضيّته، بقدر ما بات يعمل في حدود إدارة حياته اليوميّة والمعيشيّة.
هذا وقد أسهمتْ تحوّلاتٌ إقليميّةٌ وعالميّة، وتراجعُ القضيّة الوطنيّة على المستوى الدوليّ، في تراجع حضور المؤسّسات الأهليّة، وفي تراجع الثقة بخطابها وبكثيرٍ من مفاهيمها التي صاغت وعيَ ما بعد الثورة وما قبل الدولة ــ تلك الدولة التي لم تأتِ.
ولكُم أن تتخيّلوا الأثرَ الذي أحدثه رفضُ الغرب "الديمقراطيّ" لنتائج الانتخابات التشريعيّة الفلسطينية سنة 2006، وقطْعُه رواتبَ الموظّفين! لكُم أن تتخيّلوا معنى ضياع جهود التنمية والتعمير وبناء المؤسسات طوال سنوات بعد ساعاتٍ فقط من القصف الإسرائيليّ! لقد انتهى الأملُ العريض بخيبةٍ كبيرة. وهذه الأحداث والمواقف دفعتْ في اتجاه التخلّص من وعي المرحلة الثانية، أو إفقادِه على الأقلّ قدرًا كبيرًا من الشرعية.
غير أنّ هذه الأحداث والمواقف، إلى جانب عواملَ أخرى لم نوردْها بعد، أسهمتْ أيضًا في صياغة الوعي الجديد الذي يقف خلف أنماط العمل الشبابيّ الجديد في السياق التحرّريّ. هذا الوعي يمكن وصفُه بـ"العودة إلى الذات." إنّه وعيٌ متجدّدٌ بحقيقة البنية الكولونياليّة، وحجمِها، ومدى تحكّمها بمصيرنا؛ وعيٌ في سياق التحرّر، لا في سياق الوهم.
ثالثًا: مرحلة الفراغ السياسيّ. انفصالُ الوطنيّ عن السياسيّ، وتراجُعُ الأمل من "مشروع السلام،" وحالةُ الفوضى التي ميّزت الانتفاضةَ الثانية، وغيابُ شخصيّات وطنيّة مركزيّة، والانقسامُ الذي أعقب الانتخاباتِ التشريعيّةَ الثانية: كان لذلك كلّه أن يفسح المجالَ واسعًا أمام ظهور عامل وفاعل جديد، هو السياسات الاقتصاديّة النيوليبراليّة، التي ستصبح عنوانًا للمرحلة الحاليّة، مرحلةِ "الفراغ السياسيّ."
بيْد أنّ هذه السياسات النيوليبراليّة ليست نتيجةً لما ذكرناه فحسب، وإنّما هي أيضًا سببٌ في تعميق الفراغ الذي نتحدّث عنه. إذ إنّ التفاوتات الطبقيّة، وأنماطَ المعيشة الجديدة، التي ظهرتْ بشكل خاصّ في "مركز" هذه السياسات، أيْ مدينةِ رام الله، عمّقتْ ثقافةَ الفردانيّة والخلاص الفرديّ. وهذه النيوليبراليّة بثّت روحَها في مختلف أشكال النشاط، من ثقافةٍ وفنٍّ وأدبٍ وتجارة، بل فرضتْ نفسَها على نمط العلاقات الاجتماعيّة أيضّا.
في هذه المرحلة، مرحلةِ الفراغ، لم يعد ممكنًا تناولُ مفهوم البنية السياسيّة الاجتماعيًة على النحو الذي تناولناه في المرحلتين الأولى والثانية، أيْ مرحلة منظّمة التحرير ومرحلة ما قبل الانتفاضة الثانية؛ وإنّما يمكن الحديثُ بشكل أوضح عن مركز اقتصاديّ نيوليبراليّ، تدور حوله بقيّةُ أشكال العمل، بما فيها العملُ السياسيّ. وهذا ما ساهم في ظهور الخطاب النخبويّ، والفنّ النخبويّ، والثقافة النخبويّة، والسلوك النخبويّ، والتمركز الجغرافيّ النخبويّ. إنّها النخبويّة العازلة لنفسها، المترفّعة عن القواعد الشعبيّة، محيطًا وخطابًا وسلوكًا ونمطَ حياة. إنّها النخبويّة التي قامت بتشييء الحالة الفلسطينيّة والإنسان الفلسطينيّ، وبتحويلهما إلى مجرّد "موضوع" للبحث والدراسة وإبداء الرأي. وهذا التشييء، الذي خلقته روحُ النيوليبراليّة، أنتج ظاهرةَ "الأنسنة،" التي باتت هي المنظارَ الذي يرى النخبويّون من خلاله الحقَّ الوطنيّ والعملَ الثقافيّ والفنّيّ والحالةَ الاقتصاديّة التي تعيشها القواعدُ الشعبيّة. إنّها الأنسنة التي قوننت الحقَّ الوطنيّ، أي اختزلتْه إلى مجرّد إجراء قانونيّ، وحوّلتْ معادلة "شعب ــــ احتلال" إلى معادلة "تخلّف ــــ تقدّم،" و"غير حضاري ــــ حضاري."
وفي ظلّ هاتين "الأنسنة" و"النخبويّة" بتنا مشغوليْن بإثبات "تحضّرنا" و"إنسانيتنا" و"التزامنا بالقوانين الدولية" أمام "العالم المتحضر،" بعد أن كنا نرى هذا العالم هو المسؤولَ عن نكبتنا ولنا حق عنده.
أنماط العمل الشبابيّ الجديدة، إذن، هي وليدةُ هذا الفراغ السياسيّ، ووليدةُ هذا التحوّل في المفهوم والخطاب، ووليدةُ هذا الغياب في الانسجام الاجتماعيّ. إنّها ردُّ فعلٍ عليه، وناقدةٌ له، ورافضةٌ لوجوده. والمفارقة أنّ هذه الأنماط الجديدة وُلدتْ في ذروة بروز هذه النيوليبراليّة وفي مركزها المحلّيّ، وكأنّ حالَها ينطبق عليه وصفُ ماركس لـ"أداة التاريخ غير الواعية." حقًّا، فالنيوليبراليّة، إذ تَهدم بنيةً ما، تحوّل نفسَها إلى أداةٍ تسهم في توفير الظروف المناسبة لبناء بنية جديدة.
متى بدأتْ هذه الأنماط في الظهور تحديدا؟
نجازف بالقول إنّها ظهرتْ في العام 2011، وكان "الربيعُ العربيّ" سببًا مباشرًا في انطلاقها، ولا نقول تشكّلها، الذي هو في صيرورة لم تنتهِ بعدُ كما قلنا. والحقّ أنّ اعتبارنا العام 2011 تاريخًا محوريًّا في هذا الانطلاق لا يغفل أنّه كانت قد بدأتْ في الظهور قبل ذلك، وتحديدًا في العام 2008 الذي شهد العدوانَ الكبيرَ على قطاع غزّة، بوادرُعمل شبابيّ جماعيّ، خصوصًا على صعيد التضامن مع القطاع والمطالبات بإنهاء الحصار والانقسام.
وعي "العودة إلى الذات".
منذ العام 2011 برزتْ ثلاثةُ أنماط عمل شبابيّ، وهي:
ــــ أوّلًا: نمطٌ ظهر بتأثّرٍ مباشرٍ بالثورة في تونس ومصر. فقد شكّل ظهورُ شعار "الشعب يريد إسقاطَ النظام" في هذين البلدين، والسرعةُ التي تحقّق فيها مضمونُ هذا الشعار فيهما، وصعودُ الشباب فاعلًا ومسؤولًا مباشرًا عن ذلك التحقيق، أسبابًا في انتشاره بين الشباب في بلادٍ عربيّةٍ أخرى كثيرة (في لبنان رُفع شعار "الشعب يريد إسقاطَ النظام الطائفيّ،" وفي الضفّة الغربيّة وقطاع غزة رُفع شعار "الشعب يريد إنهاء الانقسام"، بل هنالك مَن رفع شعار "يلّا ننهي الاحتلال").
وقد تُرجمتْ هذه الشعارات في فلسطين بتحرّكٍ كبير عُرف بـ"تحرّك 15 آذار." وفيه انخرط آلافُ الفلسطينيّين في حملةٍ نزلتْ إلى الشوارع، بعد تنظيمها والدعوة إليها عبر الفيسبوك، للمطالبة بإنهاء الانقسام، وللتعبير عن سخطهم على الحالة الفلسطينيّة الداخليّة. ولكنْ سرعان ما انتهى هذا الحراك من دون تحقيق أهدافه. وفي اعتقادنا أنّ أسباب الفشل ذاتيّة في المقام الأوّل، وتتمثّل في كيفيّة تبلوره: فهو جاء عفويًّا، متأثّرًا بالحالة العربيّة، محاولًا "تقليدَها،" متلهّفًا أو متوقّعًا تحقيقَ أهدافه بالطريقة ذاتها وبالسرعة عينها. وربّما كان لتبلوره عبر العالم الافتراضيّ، ولانتقاله السريع إلى الأرض، من دون توفّر عمق التواصل والمعرفة والتنظيم بين الفاعلين في هذا الحراك، دورٌ في هذا الفشل.
وهنالك أيضًا أسبابٌ موضوعيّة مهمّة لفشل الحراك الفلسطينيّ ومنها: انحرافُ "الربيع العربيّ" نفسه، الذي كان ملهِمًا له؛ وغيابُ الشباب عنه؛ ودخولُه حالةً من العسكرة.
ــــ ثانيًا: نمطٌ مرتبطٌ بمطلبٍ محدّد. فعلى الرغم من فشل الحراك الفلسطينيّ المذكور، فإنّه قد أسهم في فتح الطريق أمام الميدان، إذ ظهر في الضفّة الغربيّة نمطُ العمل المرتبط بقضيّة محدّدة، وينفضّ القائمون عليها مع تحقيق المطلب منها. من أبرز أشكال هذا العمل حملةُ الضمان الاجتماعيّ، والحملة المطلبيّة لمعلّمي المدارس.
ــــ ثالثًا: نمط العمل الشبابيّ الجديد. هذا النمط هو الذي ينطبق عليه التعريفُ والتوصيفُ اللذين أوردناهما في بداية هذا المقال. إنّه نمط العمل الشبابيّ، الجماعيّ، التطوّعيّ، الشموليّ، القائم أساسًا على المبادرة الفرديّة، والحريص على إعادة تشكيل الوعي الوطنيّ بشكلٍ خاصّ.
هنا علينا التوضيح أنّ آليّة عمل هذا النمط جاءت متأثّرةً بفشل آليّة عمل النمط الأوّل (العفويّ المقلِّد المتلهّف لتحقيق أهداف سريعة). فكأنّ القائمين على النمط الجديد يمتلكون الإدراكَ الكافي بتعقيدات الواقع الفلسطينيّ، وبعمق أزمته، وبأثر العقدين الماضييْن فيه، وبتشابك السياسيّ بالاقتصاديّ والاجتماعيّ والثقافيّ. ولذا قام عملهم، ويقوم، على تفكيك الثقافة السائدة، ومحاولة بناء ثقافة موازية ــــ بل بديلةٍ ــــ للسائد.
جوهر هذه الثقافة البديلة التي يؤسِّس لها هذا النمطُ من العمل الشبابيّ يقوم على ربط الوطنيّ بكلّ أشكال العمل والمعرفة. إنّه يعيد ــــ بوعيٍ مسبّق ــــ مركزيةَ الوطنيّ منطلقًا ورؤيةً للعمل الاجتماعيّ والثقافيّ والسياسيّ، ويعيد ــــ بالوعي المسبّق ذاته ــــ ربطَ منطلقات هذا العمل بالميدان. وهو بهذا الربط، ما بين الوطنيّ ومنطلقات العمل، وما بين العمل والميدان، يعيد تلقائيًّا تشكيلَ قيمٍ جديدةٍ تراجعتْ، بل اندثرتْ، خلال السنوات الماضية، أمام خطاب الدولة والتنمية وسياسات النيوليبراليّة. إنّه يعمل، بالتجربة العمليّة، على تفكيك "ثقافة التمويل،" وإعادة بناء ثقافة اعتماد الفلسطينيّ على نفسه وقدراته ومقدّراته، على اعتبار أن هذه الاعتماد لا مفر منه في سياق تحرّريّ.
هذا النمط من العمل، أيضًا، بات اليوم يشكّل إطارًا جديدًا أو بديلًا للشباب الفلسطيني، ويبلور في داخله قياداتِه ونماذجَه الخاصّةَ التي بدأتْ تَكون محطَّ إعجاب هذا الجيل واهتمامِه. انه مرحلة قائمة في ذاتها، لها فعلُها وآليّاتُها. والأهم أنّ لها وعيَها الخاصّ والمناقض والناقد للوعي السائد. باختصار، هذا نمط عمل جديد، يؤسِّس لقطيعة معرفيّة مع المرحلة الحاليّة المهيمنة.
على أنّ التأسيس لهذه القطيعة لا بدّ من أن يطرح سؤالًا عن علاقة هذا النمط بالبنية السياسيّة القائمة على صعيد الحزب والسلطة معًا. أهو بديل قادم؟ أهو، على الأقلّ، نقيضٌ قادم، لا بدّ من أن يصطدم بهيمنة هذه البنية؟
الإجابة تكمن في طبيعة هذا النمط ذاته. فهو ــــ كنمط عمل تطوعيّ طوعيّ قائمٍ على المبادرة الفرديّة، وكنمطٍ هُلاميّ لا يسعى إلى هيكلة نفسه ولا يريدها ــــ يصعب أن يشكّل في سياق تحرّريّ بديلًا من الحزب السياسيّ، على اعتبار أنّ العمل الوطنيّ (وخصوصًا النضاليّ) يحتاج إلى المركزانيّة الحزبية وإلى آليّات عملها المختلفة تمامًا. وفي اعتقادنا أنّ النمط الجديد لا يسعى أصلًا إلى أن يكون بديلًا بالمعنى السياسيّ، ولكنّه يسعى فعلًا إلى أن يكون وعيًا بديلًا للوعي القائم، وكأنّه هنا يراهن على أن ينتج الوعيُ تجربتَه السياسيّة الخاصة.
لذلك علينا ألّا نحصرَ هذا النمطَ من العمل في الفضاء السياسيّ، وألّا نثقلَه بهذه الأسئلة النمطيّة. الأهمّ هو أن تعيد البنيةُ السياسيّة الرسميّة القائمة قراءتَها لنفسها وخطابها وسياساتها، من خلال فهم هذا التوجّه الشبابيّ البعيد عن مركزانيتها؛ فلقد باتت هذه البنية، منذ زمن ليس بالقصير، بنيةَ طردٍ لا جذبٍ للشباب الفلسطينيّ.
رام الله
*ورقة قُدّمتْ قبل أيّام في مؤتمر مركز مسارات السادس في رام الله.
صحافيّ وأكاديميّ فلسطينيّ.