مُحاضر في العلوم السياسيّة والاداريّة. له عدّة مؤلفات منها: عصر الدبلوماسيّة النوويّة الإيرانيّة: طهران تهدم جدار العزلة، و العلاقات الخيلجيّة ــــ الإسرائيليّة السريّة: وقائع وأبعاد.
مقدّمة
بعد الحرب الباردة، تغيّرتْ طبيعةُ الصراعات في العالم، فزادت نسبةُ الصراعات الداخليّة. وقد وظّفت الدولُ الكبرى موضوعَ "حماية حقوق الإنسان" من أجل التدخّل في شؤون الدول، والمساسِ بسيادتها، والضغطِ على حكوماتها لصالح أجنداتها السياسيّة والاقتصاديّة. وعمدتْ بعضُ دول حلف الناتو، وعلى رأسها الولاياتُ المتحدة، إلى استخدام مفهومي "الديمقراطيّة" و"حقوق الإنسان" ورقةَ ضغطٍ لابتزاز الدول الضعيفة.
على مدى العقود الماضيَة، خضع مبدأ "التدّخل الإنسانيّ" لعوامل سياسيّة، واقتصر تطبيقُه على بعض الدول في أوروبا الشرقيّة سابقًا وأميركا اللاتينيّة وأفريقيا والشرق الأوسط والعالم العربيّ. وحدها "إسرائيل،" ومعها بعضُ الدول الخليجيّة، بقيت "الاستثناء" الذي لا تنطبق عليه هذه القاعدة. وتأكيدًا على ذلك، نرى أنّ الدول الكبرى في مجلس الأمن لم تُبادر مرةً إلى التدخل الانسانيّ ضدّ الممارسات التي تقوم بها "إسرائيل" في حق الشعب الفلسطينيّ، ولم نلحظ أي مبادرة سياسيّة لوقف جرائم الحرب السعوديّة في اليمن.
لا تقتصر خطورةُ هذا الاتجاه على رسم ملامحه من قِبل الدول الغربيّة، بل تتجاوز ذلك إلى تبنّيه من قِبل المنظمة الدوليّة ومؤسّساتها ومنحِه الشرعيّةَ الدوليّة. وعلى هذا النحو يتم اليوم إسقاطُ مفاهيم سادت العلاقاتِ الدوليّةَ قبل الحرب الباردة: كاحترام سيادة الدول، وعدم التدخّل في شؤونها، والمحافظة على سلامتها ووحدة أراضيها. وبتنا نشهد خروقًا كثيرةً لمبدأ سيادة الدول، وتتوفَّر لهذه الخروق شتّى المبرِّرات القانونيّة والاخلاقيّة، وتتجنّد للدفاع عنها منظّماتٌ دوليّة وحقوقيّة ووسائلُ إعلام عالميّة.
أولًا: شرعنة التدخّل الانسانيّ وتراجع مفهوم السيادة
تصدّرتْ مسألةُ التدخّل الإنسانيّ في شؤون الدول بذريعة "حماية الإنسان وحقوقه الأساسيّة" أدبيّاتِ المجتمع الدوليّ المعاصر، الذي انقسم بين رافض ومؤيّد. اعتبر الفريق الرافض أنّ التدخّل انتهاكٌ لسيادة الدولة وتكاملها الإقليميّ، ويتناقض مع ميثاق الأمم المتحدة وفقًا للمادّة الثانية ــــ الفقرة السابعة. أمّا الفريق المؤيد فيرى هذا التدخّل في صميم مهامّ الأمم المتحدة التي ترمي إلى الحفاظ على السلْم والأمن الدوليين وتسعى إلى حماية الدول ووحدة أراضيها وسلامتها الاقليميّة، مع مراعاة احترام معايير حقوق الإنسان الدوليّة وفقًا للمادة 39 من الميثاق.[1]
بعد تفكّك الاتحاد السوفياتيّ وانهيار جدار برلين ومعه المعسكر الاشتراكي السابق، أعطت الولاياتُ المتحدة نفسها حقَّ قيادة النظام العالمي الجديد من دون رادع أو وازع. ففتحت بابَ شرعنة التدخّل الدوليّ على مصراعيه، بعد أن كان يتمّ "تمريرُه" في حالات استثنائيّة فقط. ولم تعد علاقةُ الدولة بمواطنيها أمرًا داخليًا بحتًا، خصوصًا إذا ما أدّى سلوكُها نحو مواطنيها الى كوارث إنسانيّة تمتد بآثارها إلى دولٍ أخرى، كما يحدث في حالات الهجرة. وتراجعتْ قدسيّةُ المفهوم التقليديّ لـ"السيادة الوطنيّة،" على الرغم من وضوح مبادئ الأمم المتحدة والقانون الدوليّ إزاء عدم شرعيّة التدخّل في شؤون دولة سيّدة.[2]
وفي غياب أيّ أساس قانونيّ أو عرفيّ للتدخّلات العسكريّة، التي تقوم بها دولةٌ أو أكثر، في إقليم دولة أخرى، بهدف وضع حدّ للمذابح أو الاضطهادات العرقيّة التي يتعرّض لها المدنيون بسبب انتماءاتهم الدينيّة أو القوميّة أو العرقيّة أو مواقفهم السياسيّة، ابتدع فقهاءُ القانون الدولي مسوِّغًا جديدًا لهذه التدخّلات، سُمّي "التدخّل الإنساني."
تقوم نظريّةُ "التدخّل الإنسانيّ" على افتراض وجود قاعدة قانونيّة آمرة، مُلزِمة لكلّ دولةٍ وفرد، وهي أسمى من التشريعات الوطنيّة ومن الاتفاقات الدوليّة، وتمثّل ما أُطلق عليه "القانون المشترك للإنسانيّة." وللتأكيد على ذلك يقول أبرزُ روّاد هذه النظريّة، أستاذُ القانون الدوليّ في جامعة بوردو الفرنسيّة، أنطوان روجيه:
"عندما تكون الحقوقُ الإنسانيّة لشعبٍ ما موضوعَ تجاهلٍ من قِبل حكامه، يحقّ لدولةٍ أو لمجموعةٍ من الدول التدخّلُ باسم الأسرة الدوليّة لمراقبة هؤلاء الحكّام، ووقفِ أعمالهم، ومنع تجدّدها في المستقبل. فتحلّ سيادتُها، موقّتًا، محلَّ سيادة الدول المُتدَخَّلِ في شأنها."[3]
وشكّل تقريرُ الأمين العامّ السابق للأمم المتحدة بطرس غالي، الذي قدّمه بناءً على دعوة من مجلس الأمن في بيانه المؤرَّخ في 31 كانون الثاني 1992 عن "صنع الأمن والسلام الدوليين،" بمثابة دعوة علنيّة إلى التدخل الدوليّ في شؤون الدول الأخرى. فقد اعتبر أنّ"احترام صميم سيادة الدولة وسلامتها أمر حاسم لتحقيق أيّ تقدّم دوليّ مشترك، بيْد أنّ زمن السيادة المطلقة الخالصة قد مضى، ونظريتَها لم تتماشَ أبدًا مع الواقع."
وتحدّث غالي في تقريره عن الفارق بين فترة الحرب الباردة والفترة التي تلتها، مشيرًا إلى الآتي: "على الرغم من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في فترة الحرب الباردة، إلّا أنّ سيادة الدولة كانت مانعًا من التدخّل. لكنّ الفترة اللاحقة للحرب الباردة كسرتْ ذلك الحاجزَ، وألغت السيادةَ المطلقةَ للدول، بمعنى إمكانيّة جواز التدخّل في الشؤون الداخلية للدول."
لم يكن تقرير غالي مُجرّدَ زلّة لسان. فقد جددّ دعمَه الصريح لفكرة التدخّل خلال افتتاح المؤتمر العالميّ حول حقوق الإنسان، المنعقد في فيينا عام 1993، مؤكّدًا المنحى الذي اتجه إليه المجتمعُ الدوليّ في تعامله مع قضايا حقوق الانسان، وذلك بإشارته إلى أنّ "هذا المجتمع يوكِل إلى الدولة مهمّةَ تأكيد حماية الأفراد. ولكنّه في حال خرقِ هذه الدول للمبادئ الأساسيّة التي وضعها الميثاق، فإنّ ذلك يوجب على المجتمع الدوليّ أن يَحلَّ محلَّ الدولة إنْ فشلت هذه الأخيرةُ في التزاماتها."[4]
ويُمكن القول إنّ كلام غالي شكَل فاتحةً لعصر التدخّلات الفجّة، بحيث أصبحت الدولُ الصغيرة تحت رحمة الدول الكبرى، كدول حلف الناتو والولايات المتحدة، التي حطّمت الرقم القياسيّ في التدخلات غير المشروعة في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا ودول أميركا اللاتينيّة، ناهيك بتدخّلاتها في دول آسيويّة.
ثانيًا: الجدل القانونيّ حول مشروعيّة التدخّل الإنسانيّ
أثير جدلٌ واسع حول مشروعيّة التدخّل الانساني وآليّاته. ونجد عند فقهاء القانون الدوليّ العامّ في محاولاتهم تعريفَ التدخّل الإنسانيّ أربعةَ اتجاهات:
ـــ الاتجاه الأول ينادي بوجوب التدخّل في حالاتٍ معيّنة. ويرى أصحابُه أنّ التدخّل الإنسانيّ هو "المساعدة باستخدام القوة بهدف توفير الحماية لمواطني دولةٍ ما، إزاء المعاملة التعسّفيّة والمتجاوزة للحدّ، والتي لم تراعِ تلك الدولة أنّ سياستها تفترض أن تقوم على أسسٍ من العدالة والحكمة."[5]
ـــ الاتجاه الثاني يرفض فكرةَ التدخل الانسانيّ، ويرى فيها مساسًا باستقلال الدولة، وانتقاصًا من سيادتها. ويشدّد أنصارُ هذا الاتجاه على وجوب الالتزام بعدم جواز استخدام القوّة لأيّ سببٍ كان، إلّا عند الدفاع الشرعيّ عن النفس، وحصرًا تحت مظلّة الأمم المتحدة واستنادًا إلى شرعيّة قرارتها.
ـــ الاتجاه الثالث يُميّز بين نوعين من التدخّل: أ) التدخّل في الشؤون الداخليّة لدولةٍ ما؛ وهذا مرفوض كليًّا في رأي أصحابه، وإنْ جاء لاعتبارات محقّة ومُهمّة. ب) التدخّل لإنقاذ مواطني دولةٍ معينة، أو للدفاع عن حقوق وحريات أساسيّة، ضدّ انتهاكات فادحة وجسيمة تحدث في دولةٍ ما، كما في حالات التطهير العرقيّ أو الإبادة الجماعيّة أو القتل الجماعيّ. وهذا التدخّل يجب أن يتمّ من قبل الأمم المتحدة، وضمن آليّات يحدّدها الميثاق.
ـــ الاتجاه الرابع يرى أنّ الحلّ الأفضل، عند حصول انتهاكات فاضحة لحقوق المواطنين في دولة ما، هو في رفع الأمر إلى المنظّمات الدوليّة والاقليميّة للقيام بمهمّة الإنقاذ وإيجاد الحلول العادلة والسليمة لمثل هذه الاعتداءات على حقوق الإنسان.[6]
وفي المقابل، لم يحظَ استخدامُ القوة بأيّ سابقة قانونيّة مقبولة على نطاق واسع أثناء الحرب الباردة. وكانت محكمةُ العدل الدوليّة قد رفضتْ في حكمها الصادر في 9 نيسان 1949، وتحديدًا في قضيّة "قناة كورفو بين بريطانيا وإيرلندا الشمالية،"[7] إمكانيّة أن يكون الحقّ في التدخّل بالقوة متّسقًا مع القانون الدوليّ. وذكرت المحكمة "أنّه مهما كانت العيوب الحاليّة في التنظيم الدوليّ، فلا يُمكن أن يجد الحقُّ في التدخّل بالقوّة مكانًا في القانون الدوليّ." وأكّدت المحكمة أنّ استخدام القوة ليس الأسلوب المناسب لرصد أو ضمان احترام حقوق الانسان.[8]
ثالثًا: الحالات القانونيّة للتدخّل الدوليّ الإنسانيّ
يُستثنى ﺍﻟﺘﺩﺨلُّ ﺍﻹﻨﺴﺎﻨﻲّ ﺍﻟﺫﻱ ﺘﻘﻭﻡ ﺒﻪ ﺍﻷﻤﻡُ ﺍﻟﻤﺘﺤﺩﺓ ﻤﻥ ﻤﺒﺩﺃ "ﻋﺩﻡ ﺍﻟﺘﺩﺨّل ﻓﻲ ﺍﻟـﺸﺅﻭﻥ ﺍﻟﺩﺍﺨﻠﻴّﺔ ﻟﻠﺩﻭﻟﺔ ﺍﻟﻤﻌﻨﻴّﺔ." ﻭﻴﻨﺒﻊ ﻫﺫﺍ الاسثتناء من ﻋﺩﻡ ﺘﻀﻤّﻥ ﺍﻻﺨﺘﺼﺎﺹ ﺍﻟﺩﺍﺨﻠﻲّ ﻟﻠﺩﻭﻟﺔ ﻤﺴﺄلةَ ﺤﻘﻭﻕ ﺍﻹﻨﺴﺎﻥ ﺍﻟﺘﻲ ﺃﺼﺒﺤﺕ ﺸﺄﻨًﺎ ﺩﻭﻟﻴًﺎﹰ. ﻭﻤﻥ ﻫﺫﺍ ﺍﻟﻤﻨﻁﻠﻕ ﺭﻓﻀﺕ ﺍﻷﻤﻡُ ﺍﻟﻤﺘﺤـﺩﺓ ﺍﻻﺤﺘﺠـﺎﺝَ ﺒﻤﺒﺩﺃ "ﺍﻻﺨﺘﺼﺎﺹ ﺍﻟﺩﺍﺨﻠﻲّ" من أجل ﻤﻨﻊ ﺍﻟﺘﺩﺨّل ﻓﻲ ﺍﻟﻘﻀﺎﻴﺎ ﺍﻟﺘﻲ ﺘﻤﺱُ ﺍﻟﺴﻼﻡَ ﻭﺍﻷﻤﻥ ﺍﻟﺩﻭلييْن، ﺨصوصًا ﺃﻥّ ﺤﻘﻭﻕ ﺍﻹﻨﺴﺎﻥ ﻤﺭﺘﺒﻁﺔ بهما.
ووفقًا لبعض فقهاء القانون الدوليّ، ﻴُﻌﺩّ ﺘﺩﺨّلُ ﺍﻷﻤﻡ ﺍﻟﻤﺘﺤدة مشروعًا وﻤﻁﺎﺒﻘًﺎﹰ ﻟﻠﻘﺎﻨﻭﻥ ﺍﻟﺩﻭﻟﻲّ، وﻻ ﻴﻤﺜّل تعدّيًاﹰ ﻋﻠﻰ ﺴﻴﺎﺩﺓ ﺃﻱّ ﺩﻭﻟﺔ، وذلك بموجب ﺍﻨﻀﻤﺎﻡ ﺍﻟﺩﻭل ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﻴﺜﺎﻕ الذي ﺃﻋﻁﻰ ﻤﻭﺍﻓﻘﺔً ﻀـﻤﻨﻴّﺔً ﻤُـﺴﺒّﻘﺔ على التدخل. ﻭﻫﺫﺍ ﺍلاﻨﻀﻤﺎﻡ ﻴُﻌﺩّ ﺘﻨﺎﺯلًاﹰ ﻻﺇﺭﺍﺩﻴًّﺎﹰ ﻋﻥ ﺍﻟﺴﻴﺎﺩﺓ.[9] وفي هذا السياق أكدّت ﺍﻟﻤﺎﺩّﺓُ ﺍﻟﺨﺎﻤﺴﺔ ﻤﻥ ﺍﻟﻘﺭﺍﺭ ﺍﻟﺫﻱ ﺍﻋﺘﻤﺩﻩ ﻤﻌﻬﺩُ ﺍﻟﻘﺎﻨﻭﻥ ﺍﻟﺩﻭﻟﻲّ ﻓﻲ 13 أيلول 1989 ﺃﻥّ "ﺍﻟﻤﺴﺎﻋﺩﺓ ﺍﻹﻨﺴﺎﻨﻴّﺔ ﻻ ﺘﻤﺜّل ﺘﺩخّلًا." وﻨﺼّﺕ ﻋﻠﻰ ﺍﻵﺘﻲ:
"ﻻ ﻴﻤﻜﻥ ﺍﻋﺘﺒﺎﺭُ ﺃﻱّ ﻋﺭﺽٍ ﺘﻘﺩّﻤﻪ ﺩﻭﻟﺔٌ، ﺃﻭ ﻤﺠﻤﻭﻋﺔٌ ﻤﻥ ﺍﻟﺩﻭل، ﺃﻭ ﻤﻨﻅّﻤﺔٌ ﺩﻭﻟيّة، ﺃﻭ ﻫﻴﺌﺔٌ ﺇﻨﺴﺎﻨﻴّﺔ ﻏﻴﺭُ ﻤﺘﺤﻴّﺯﺓ (ﻨﻅﻴﺭ ﺍﻟﻠﺠﻨﺔ ﺍﻟﺩﻭﻟﻴّﺔ ﻟﻠﺼﻠﻴﺏ ﺍﻷﺤﻤﺭ)، ﺒﻐﺭﺽ ﻤﻨﺢ ﻤﻌﻭﻨﺔٍ ﻏﺫﺍﺌﻴّﺔ ﺃﻭ ﺼﺤﻴّﺔ ﻟﺩﻭﻟﺔ تتعرّض ﺤﻴﺎﺓُ ﺴﻜّﺎﻨﻬﺎ ﺃﻭ ﺼﺤّﺘُﻬﻡ ﻟﺨﻁﺭ ﺠﺴﻴﻡ، ﺒﻤﺜﺎﺒﺔ ﺘﺩﺨّلٍ ﻏﻴـﺭ ﻤـﺸﺭﻭﻉ ﻓـﻲ ﺍﻟﺸﺅﻭﻥ ﺍﻟﺩﺍﺨﻠﻴّﺔ ﻟﻬﺫﻩ ﺍﻟﺩﻭلة."
وعليه لا يجوز أن تتّخذ المساعدةُ الإنسانيّة شكلَ التهديد بالتدخّل المسلّح أو إجراءٍ زجريّ آخر[10]
اﻷﺴﺎﺱ ﺍﻟﺫﻱ بُنيَ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺘﺩﺨّلُ ﺍﻹﻨﺴﺎنيّ ﻫﻭ ﺍﻹﻨﺴﺎﻥ، ﻭﻤﺎ ﻟﻪ من حقوق ﻭﺤﺭﻴّﺎﺕ. ومن ثمّ ﻻ ﺒﺩّ ﻤﻥ ﺘﻘﺩﻴﺭ الدولة لذلك، ﻭﺍﺤﺘﺭﺍمِه، لكون الإنسان شخصيّةً اعتباريّة. ﻓﺎﻹﻨﺴﺎﻥ، وفقًا لجميع الأديان والشرائع السماويّة والشرعات الحقوقيّة، ﻫﻭ ﺍﻟﻔﺭﺩ ﺍﻟﺫﻱ ﻴُﺸﻜّل ﺃﺴﺎﺱَ ﺍﻟﺩﻭل: ﺒﺩﻤﺎره يكون ﺩﻤﺎﺭُ ﺍﻟـﺩﻭل، وبتحقيق ﺃﻤﻨﻪ ﻭﺍﺴﺘﻘﺭﺍﺭﻩ ﻴﺘﺤﻘّﻕ ﺃﻤﻥُ ﺍﻟﺩﻭل واستقرارُها. ﻭﻋﻠﻰ ﻫﺫﺍ ﺍﻷﺴﺎﺱ ﺤﺎﻭﻟﺕ ﺍﻟﺩﻭلُ ﺍﺴﺘﺨﺩﺍﻤَﻪ وسيلةً ﻟﺘﺤﻘﻴﻕ ﺃﻁﻤﺎﻋﻬﺎ ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻴّﺔ ﻭﺍﻟﺴﻴﺎﺴﻴّﺔ ﻭﺍﻻﺠﺘﻤﺎﻋﻴّﺔ.
رابعًا : شروط التدخّل الدوليّ الإنسانيّ وفقًا للقانون الدوليّ
راعت قواعدُ القانون الدوليّ مبدأ السيادة، الذي نصّت عليه المادّة 1/2 من ميثاق الأمم المتحدة. وتلافيًا لأيّ مساسٍ بهذه السيادة، حُدّدت الشروطُ الموضوعيّة لممارسة حقّ التدخّل الإنسانيّ في إطار احترام سيادة الدولة، وأبرزُها المبادئُ التوجيهيّة الملحقة بالقرار رقم 182/46 الصادر في العام 1991، وورد فيه أنّ المساعدات الإنسانيّة يجب تكون مُقدَّمةً وفقًا لمبادئ الإنسانيّة والحياد، وبموافقة الدولة المعنيّة، ومع الاحترام الكامل للسيادة والسلامة الإقليميّة والوحدة الوطنيّة.[11]
وعليه، يُمكن تلخيصُ الشروط الواجب توفّرها لشرعنة التدخّل الانسانيّ بالنقاط الآتية:
الأولى: أن يكون التدخّلُ الإنسانيّ محصورًا بالحالات الطارئة والظرفيّة.
الثانية: أن يأتي بعد موافقة الدولة المعنيَة.
الثالثة: أن يأتي في حال عدم كفاية الوسائل الماديّة المتّخذة من قبل الدولة المعنيّة.
الرابعة: أن يكون استثناءً من قاعدة مبدأ عدم التدخّل.
الخامسة: أن يكون آخرَ البدائل المتاحة في حال استفاد جميع الوسائل.
السادسة: ألّا يأتي من جانب دولة واحدة أو عدد محدود من الدول.
السابعة: أن يُعتمد فيه على المنظّمات الدوليّة أو الإقليميّة المختصّة، لاسيّما الأمم المتحدة، كي يأتي بعيدًا عن الأهواء.
الثامنة: ألّا يتجاوزَ المدّة المحدّدة له في قرارات مجلس الامن والأمم المتحدة.[12]
خامسًا: أبرز التدخّلات الدوليّة المعاصرة
شكّلت القراراتُ الصادرة عن الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة، بمبادرةٍ من فرنسا، ولا سيّما القرار رقم 43 / 131، المؤرَّخ في 8 كانون الأول 1988، والقرار رقم 45 / 100، المؤرَّخ في 14 كانون الأول 1990، حول "حقّ المساعدة الإنسانيّة لضحايا الكوارث الطبيعيّة والأوضاع الطارئة،" بدايةَ تحوّلٍ في تجاوز مبدأ عدم التدخّل في شؤون الدول الداخليّة، على الرغم من أنّ تلك القرارات تفترض موافقةَ حكومات الدول المعنيّة واحترام سيادتها.
فقد شهد العالمُ في أواخر القرن الماضي دعواتٍ عديدةً إلى التدخّل. وقابل ذلك نشاطٌ اتفاقيّ إقليميّ لتقنين التدخّل. وحصلتْ تدخّلات عسكريّة لأجل "الديمقراطيّة وحقوق الإنسان،" وذلك بقيادة الأمم المتحدة والمنظّمات الإقليميّة والدول المنفردة. ويمكن إيجازُ أبرز التدخّلات التي أجازتها الأممُ المتحدة بالآتي:
ـــ كردستان العراق، 1991، بذريعة "حماية حقوق الإنسان."
ـــ الصومال، 1992. وثمّة ما يشبه الإجماع على أنّ عمليّة "استعادة الأمل" هي أوّلُ عمليّة إنسانيّة حقيقيّة للأمم المتحدة، وهي مثالٌ للتدخّل الإنسانيّ العسكريّ.
ـــ هاييتي، 1994. إذ أصدر مجلسُ الأمن القرار رقم 940/1994، الذي أكدّ أنّ هدف المجتمع الدوليّ هو "إعادةُ الديمقراطيّة وتسهيلُ عودة الرئيس المنتخب."
وفي المقابل حصلتْ تدخّلات (بذرائع إنسانيّة شتّى) من قِبل عددٍ من المنظّمات الإقليميّة. أبرزُها:
أولًا: ليبيريا، 1990. إذ أرسلت المجموعةُ الاقتصاديّة لدول غرب أفريقيا (الايكواس) قواتٍ عسكريّةً لدعم الحكومة ضدّ المتمرّدين.
ثانيًا: تدخُّل المجموعة نفسها في جمهورية سيراليون، 1997، من أجل إعادة الرئيس المنتخب.
ثالثًا: تدخُّل حلف الناتو في البوسنة والهرسك عام 1995، لوقف مجازر الصرب ضدّ المسلمين والكروات.
رابعًا: تدخُّل الناتو في كوسوفا عام 1998، في أكبر عمليّة عسكريّة بعد الحرب العالميّة الثانية، لوقف انتهاكات حقوق الانسان.
خامسًا: تدخّل الناتو العسكريّ، تحت غطاءٍ من مجلس الأمن الدوليّ، في ليبيا في العام 2011.[13]
وإذا كانت التدخّلات أعلاه قد تمت في معظمها تحت مظلّة الأمم المتحدة، وجرت تدخّلاتٌ أخرى من قِبل منظّمات إقليميّة بذريعة وقف المجازر أو حماية حقوق الإنسان، فإنّ الأعوام القليلة الماضية شهدتْ حروبًا عدوانيّةً مباشرةً ضدّ دول ذات سيادة، كسوريا واليمن.
ففي اليمن ارتكبتْ دولُ التحالف العربيّ، وفي مقدّمتها السعوديّة، مجازرَ حرب، وبرّرتْ ذلك بحماية المدنيين عبر عمليّة "إعادة الأمل." جاء ذلك بعد شهر من عمليّة "عاصفة الحزم،" التي بدأها التحالفُ نفسُه فجرَ 26/3/2015، بهدف "إعادة الشرعيّة" إلى الرئيس المنتهية ولايتُه، عبد ربّه منصور هادي.
هذه الحرب، باتفاق جميع فقهاء القانون الدوليّ، تُعدّ انتهاكًا صريحًا وواضحًا لكلّ القوانين والأعراف والمواثيق الدوليّة، لا سيّما ميثاق الأمم المتحدة، الذي نصّت المادّةُ الثانيةُ فيه، الفقرة الرابعة، على الآتي: "يمتنع أعضاءُ الهيئة جميعًا، في علاقاتهم الدوليّة، عن التهديد باستعمال القوة، أو استخدامها، ضدّ سلامة الأراضي، أو الاستقلال السياسيّ، لأية دولة، أو على أيّ وجهٍ آخر لا يتفق ومقاصدَ الأمم المتحدة."
والحال أنّ لجوءَ السعودية إلى رفع العنوان "الإنسانيّ" ذريعةً لتبرير عدوانها على اليمن يحمل الكثيرَ من الاستخفاف بالمجتمع الدوليّ، ويتناقض مع المنطق الإنسانيّ والأخلاقيّ والقانونيّ. إذ كيف لجرائم الحرب، التي حَمّلت الأممُ المتحدة السعوديةَ ومعها التحالف العربيّ مسؤوليةَ ارتكابها في اليمن، أن تستوي مع "إعادة الأمل"؟ وهل إعادةُ الأمل لليمنيين تتحقّق بالمذابح والمجازر؟ وكيف يمكن وضع حماية الإنسان وقتله في خانةٍ واحدة؟
وكان تقريرٌ مقدّمٌ إلى مجلس الأمن الدوليّ، في 28 كانون الثاني 2017، أعدّه فريقٌ تابعٌ للأمم المتحدة، وكُلّف بمراقبة سير النزاع في اليمن، والتحقيقِ في 10 ضربات جويّة نفّذها "التحالفُ" بين آذار وتشرين الأول 2016، وأسفرتْ عن مقتل 292 مدنيًّا على الأقلّ، من بينهم نحو 100 امرأة وطفل[14]، قد ذكر أنّه "في كلّ التحقيقات الــ10، من شبه المؤكّد أنّ التحالف لم يفِ بمعايير القانون الإنسانيّ الدوليّ، في ما يخصّ تناسبَ قوّة الهجوم والاحتياطات الواجب أخذها بعين الاعتبار." واعتبر التقرير أنّ "بعض الهجمات قد ترقى إلى حدّ جرائم الحرب."[15]
أمّا التدخّل الآخر، الذي لا يقلّ عدوانيّةً عن الأول، فيتمثّل في الضربات العسكريّة التي نفّذتها الولاياتُ المتحدة وفرنسا وبريطانيا في نيسان 2018 ضدّ سوريا، التي لا تزال دولة ذاتَ سيادة، وتعترف الأممُ المتحدة برئيسها ونظامها السياسيّ. وكانت ذريعةُ العدوان حمايةَ المدنيين، كما قيل، من "هجومٍ كيميائيّ" قام بها الجيشُ السوريّ في دوما في الغوطة الشرقيّة. وكان قد سبق هذا العدوانَ الثلاثيَّ عدوانٌ أميركيّ أحاديٌّ في نيسان 2017، وبالذريعة ذاتها، على مطار الشعيرات العسكريّ قرب حمص؛ فقد زعمت الولاياتُ المتحدة أنّ الغارة التي شنّها النظامُ بالأسلحة الكيماويّة على خان شيخون قد انطلقتْ من ذلك المطار.
في الهجومين كليهما، لم تقدّم الولاياتُ المتحدة أو الأممُ المتحدة أو أيُّ منظّمة دوليّة أو إقليميّة أخرى دليلًا دامغًا واحدًا يدعم نظريّةَ استخدام النظام أسلحةً كيماويّةً ضدّ المعارضة. بل إنّ ما استندتْ إليه كان معلوماتٍ ومشاهدَ تمثيليّةً فبركتْها "منظّمةُ الخُوَذ البيضاء،" المموَّلةُ من بريطانيا، والتي يقتصر عملُها على مناطق سيطرة الإرهابيين. وما لبث العالمُ أن اكتشف تبعيّةَ هذه المنظّمة بعد أن أعلنتْ "إسرائيل" أنّها فتحتْ لها المعابرَ الحدوديّة في هضبة الجولان، وقدّمتْ مرافقةً مدجّجةً بالسلاح من أجل إجلاء عناصرها إلى الأردن، تمهيدًا لاستقالبهم في الدول الأوروبيّة. وقد أصدر الجيشُ الإسرائيليّ بيانًا وصف فيه تصرّفاته بـ "البادرة الإنسانيّة الاستثنائيّة"!
إنّ الشعارات "الإنسانيّة" التي رفعتها الولاياتُ المتحدة في سوريا، والسعوديّة والإمارات في اليمن، كانت تخفي أهدافًا سياسيّةً وجيوستراتيجيّةً واقتصاديّة. فالوجود السعوديّ ــــ الإماراتيّ في اليمن يُعدّ احتلالًا وانتهاكًا فاضحًا للقانون الدوليّ، ولميثاق الأمم المتحدة. فهو قد تمّ في ظلّ حكومة غير شرعيّة، ومن دون موافقة اليمنيين، وبعد حرب عدوانية لا تزل قائمة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الوجود الأميركيّ في شرق سوريا، الذي يضمّ 90 بالمائة من ثروات سوريا الطبيعيّة.
خاتمة
تكمن إﺸﻜﺎﻟﻴّﺔُ ﺍﻟﺘﺩﺨّل الإنسانيّ ﻓﻲ ﺘﻌﺎﺭﻀﻪ ﻤﻊ ﻤﺒﺩﺃ ﺴﻴﺎﺩﺓ ﺍﻟﺩﻭﻟﺔ، ﻭﻤﺒﺩﺃ ﻋﺩﻡ ﺍﻟﺘﺩﺨّل ﻓﻲ ﺸﺅﻭﻨﻬﺎ. كما ﺃنّه ﻴﺸﻜّل ﺃﺩﺍﺓً ﻓﻌّﺎﻟﺔً ﻓﻲ يد ﺍﻟﻘﻭﻯ ﺍﻟﻜﺒﺭﻯ لتحقيق ﻤﺼﺎﻟﺤﻬﺎ. ولذلك، فإنّ هذه الإشكاليّة ما تزال في إطار المعالجة، وضمن أولويّة سلّم اهتمامات المجتمع الدوليّ. ومن هنا تعمل منظّمةُ الأمم المتحدة والمنظّمات الإقليميّة والمجتمع المدنيّ على وضع الأطر التنظيميّة للتدخّل الإنسانيّ كي لا يثير الشكوك والتساؤلات على المستوى الوطنيّ والإقليميّ والدوليّ.
بيروت
[1] ميثاق الأمم المتحدة، www.un.org
[2] محمّد المجذوب، التنظيم الدوليّ ( بيروت، الدار الجامعية ، 1998).
[3] محمد علوان، مسؤوليّة الحماية: إعادة إحياء التدخّل الدوليّ الإنسانيّwww.platform.almanhal.com
[4] الأمم المتحدة، حقوق الإنسان، المفوضيّة السامية لحقوق الإنسان. www.ohchr.org
[5] ﺑﻄﺮس ﻏﺎﻟﻲ، "اﻟﺘﺪﺧّﻞ اﻟﻌﺴﻜﺮيّ واﻟﺤﺮب الباردة،" ﻣﺠﻠﺔ اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ اﻟﺪوﻟﻴّﺔ، ﻋﺪد 127، 1997، ص 9.
[6] المصدر نفسه.
[7] موقع محكمة العدل الدوليّة باللغة العربيّة http://www.icj-cij.org/ar
[8] المصدر نفسه.
[9] جون ماري هنكرتس ولويز دوزوالد بك، القانون الدوليّ الإنسانيّ العرفيّ، المجلد الأول: القواعد (عمّان: ﻣﻨﺸﻮرات اﻟﻠﺠﻨﺔ الدوليّة للصليب الأحمر، 2007)، ص 147.
[10] محمد ﻤﻴﻜﻭ، ﺍﻟﻤﻨﺘﻅﻡ ﺍﻟﺩﻭﻟﻲّ ﻭﺤﻘﻭﻕ ﺍﻹﻨﺴﺎﻥ: هل يعطي حقُّ التدخّل شرعيّةً جديدةً للاستعمار؟ (المغرب: ﻤﻁﺒﻭﻋﺎﺕ ﺃﻜﺎﺩﻴﻤﻴّﺔ ﺍﻟﻤﻤﻠﻜﺔ ﺍﻟﻤﻐﺭﺒﻴّﺔ، 1992)، ص 171 ــ 172.
[11] هادي خضراوي، أبرز القضايا الدوليّة المعاصرة من خلال المفاهيم والبنى (بيروت: دار الكتب الحديثة، 2002)، ص 106 ــ 107.
[12] محمد المجذوب، الوسيط في القانون الدوليّ العامّ (بيروت: الدار الجامعيّة، 1999)، ص 245.
[13] قرار الجمعيّة العام للامم المحتدة، الموقع الرسمي للامم المتحدة.www.un.org/arabic/documents
مُحاضر في العلوم السياسيّة والاداريّة. له عدّة مؤلفات منها: عصر الدبلوماسيّة النوويّة الإيرانيّة: طهران تهدم جدار العزلة، و العلاقات الخيلجيّة ــــ الإسرائيليّة السريّة: وقائع وأبعاد.