سفينةُ القوميّة تموج في بحر الشرق وثقافاته وحضاراته وأعراقه، تتقاذفها أمواجُ الدين والوطن. تَنشد برًّا لا يبدو أيٌّ من ملامحه واضحًا إلى اليوم. وعلى الرغم من مأساويّة هذه الصورة، فإنّ واقعَ الجماعة الكرديّة اليوم لا يبدو في عمقه بعيدًا عنها.
يُعتبر الأكراد من الجماعات التي أهمل معظمُ رواة التاريخ الأوائل وكتَبَتِه تفاصيلَ أخبارهم، بل إنّ بعض المؤرِّخين لم يهتمّ بالإشارة إليهم. فالمتتبّع لآثارهم قلّما يجد لهم ذكرًا إلّا عرضًا في المؤلّفات، سواء الشرقيّة والعربيّة أو الاوروبيّة، قبل القرن الخامس عشر للميلاد، على الرغم من كونهم من أقدم الأعراق التي سكنت المنطقة. وإذا كان التاريخ الكُرديّ مهمَلًا قبل القرن الخامس عشر، فإنّه يكاد يختفي قبل القرن العاشر للميلاد، وينحى منحى الأساطير الشعبيّة المتناقَلة، سواء داخل الثقافة الكرديّة أو في ما ترويه عنها الثقافاتُ الأخرى.
***
يمتزج تاريخُ الأكراد القديم بتاريخ الديانة الزرادشتيّة بشكل كبير، حتى تكاد الثقافة الشعبيّة الكرديّة تُماهي بينهما. هكذا يصبح جبلُ دوكان، الواقع في محافظة السليمانيّة شمال العراق، ويحوي مغارات ونقوشًا أثريّة زرادشتيّة يعود تاريخها إلى ما قبل 3500 سنة، مزارًا سياحيًّا للأكراد، ومزارًا دينيًّا لأتباع النبيّ زرادشت (الذين يعتقدون بأنّه بشّر أهلَ فارس بالتوحيد قبل اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام). وعلى هذا النحو أيضًا تصبح الشمسُ، مصدرُ النار والنور، رمزًا يتوسّط علمَ كردستان العراق الرسميّ اليوم، مثلما أنّ عدد خيوط هذه الشمس واحد وعشرون، لا يمكن فصلُها عن كون أهمّ عيدين دينيين زردشتيين (أي رأسي السنة الشتويّ يالدا، والربيعيّ نوروز) يقعان في 21 ديسمبر و21 مارس، على التوالي، من كلّ عام، ويُعتبران عند الأكراد أهمّ عيدين قوميين.
تشترك مع الأكراد جماعاتٌ شرقيّة أخرى في الاهتمام بالتاريخ الزرادشتيّ والتمسّكِ ببعض طقوسه وأدبيّاته، كالفرس والآذر والتركمان. فقد أصبح النوروز في إيران، مثلًا، عيدًا وطنيًّا وقوميًّا؛ وبعد الثورة الإسلاميّة سنة 1979 بشكلٍ خاصّ، أُبرزتْ خلفيّةُ العيد الدينيّة التي تقول بها طائفةٌ من علماء الإماميّة في إيران، جعلتْ منه أيضًا عيدًا شبهَ إسلاميّ لدى الإيرانيين. وممّا يلفت، كذلك، تثبيتُ الإيرانيين اسمَ "هرمز،" وهو اختصار لاسم "اهورا مازدا،" الإله الزرادشتيّ على المضيق الشهير بين طرفي الجزيرة العربيّة والشاطئ الفارسيّ.
هذه القدرة على تقبّل موروثٍ دينيّ، أساسُه زرادشتيّ، وإدخالِه في الأدبيّات الوطنيّة والدينيّة الإسلاميّة، وفي الجغرافيا الفارسيّة، قد ترجع بشكلٍ أساس إلى قوّة الفرس كجماعة، وإلى غياب هواجس الأقلّيّة العرقيّة عن الذهنيّة الفارسيّة. ففي العادة، ينشأ عند الأقلّيّات وعيٌ بالتمايز عن البيئة المحيطة، ينتج عنه أمران:
ــــ إمّا نزعة انطوائيّة انسحابيّة تَعتبر أنّ الحفاظ على بقائها يكون بتجنّب انخراطها مع الجماعات الكبرى، لكون الأخيرة ذاتَ قدرةٍ على التغلغل داخل ثقافة الأقليّة وخرقها اجتماعيًّا بشكل يؤدّي الى ذوبانها؛
ـــ وإمّا جنوحُها الى الاندماج في المحيط بشكل كبير وسريع، امتصاصًا لأيّ توتّر قد ينتج من ذلك التمايز، وقد يؤدّي، إذا تفاقم، إلى هزيمتها واندثارها.
وفي هذه المسألة يبدو الكردُ أقرب إلى النزعة الثانية. إذ إنّهم، بعد الفتوحات العربيّة الإسلاميّة للعراق وبلاد فارس، دخلوا إلى الإسلام من دون معارك كبيرة تُذكر، واختاروا عدمَ مواجهة المدّ العربيّ، والقبولَ بالإسلام دينًا يحقن دماءهم ويحفظ بقاءهم. كان ذلك أيّام الخليفة عمر بن الخطّاب. فيما بعد، تحوّل الأكراد إلى جنود في جيش الخلافة، وشاركوا في المعارك. لكنّ دورَهم الأساس كان في تشكيل قوّة عسكريّة كوّنتْ سدًّا أمام أيّ غزو من ناحية المناطق الكرديّة، ما أعطاهم قيمةً كبرى على صعيد تأكيد إسلامهم أمام بقيّة المسلمين، وتحقيق قبولهم في المجتمع الإسلاميّ الذي ما زال يرزح أمام ثقل الاعتبارات العرقيّة.
كوّن الأكراد سدًّا أمام أيّ غزو من ناحية المناطق الكرديّة، ما أعطاهم قيمةً كبرى على صعيد تأكيد إسلامهم
كذلك كان لدور الأكراد هذا أن أسهم في تثبيتهم في مناطقهم، وترسيخِ انتمائهم إليها، وتوطّنِهم فيها، بحكم امتلاكهم القوّةَ بسبب أهميّة موقعهم الجغرافيّ أساسًا. فهذا الموقع سمح لهم بمواجهة غزوات الروس والبيزنطيين والترك السلاجقة والأرمن على مدى قرون. تضاف إلى ذلك مواجهتُهم الغزوَ المغوليّ على بلاد الشام، ما أدّى إلى وقوع خسائر كبيرة في صفوفهم؛ ومع أنّهم خسروا المعركة، فقد أضعفوا الجيشَ المغوليّ الزاحف نحو فلسطين، حيث سيلقى هزيمتَه الأولى في معركة عين جالوت أمام جيش المماليك بقيادة قطز.
***
يقول المؤرّخ الإغريقيّ اكزينوفون في كتابه اناباسيس، الذي يؤرّخ فيه لسير جيش بلاده لملاقاة الفرس في العراق قبل الميلاد بحوالي 400 سنة، إنّ الجيش، أثناء عودته إلى اليونان ومروره بمنطقة جبليّة بين أرمينيا وبلاد فارس وعلى ضفاف نهر دجلة، التقى أمّةً قويّةً ذات مقاومة وبأس شديديْن. وهو يسمّي تلك المنطقة بوضوح: كُرديّان، أو بيت كوردو بالسريانيّة، أو أرض الكردشيان. ويصف كيف جعلت تلك الأمّةُ مرورَ جيش بلاده في أراضيها أصعبَ من المعركة التي جاء من أجلها؛ فقد تفنّن المقاتلون الجبليّون خلالها باستعمال الأسلحة الخفيفة التي لم يمتلكوا غيرَها، فأنهكوا الجيشَ الإغريقيّ أيّامًا عديدة.
والحقّ أنّه لم يتغيّر الكثير منذ ذلك الحين بالنسبة إلى الاكراد. فإنّ ثباتَهم كجماعة في تلك المنطقة نفسها خلال كلّ تلك العصور أكسب الشخصيّةَ الكُرديّةَ تاريخًا راسخًا يفرض نفسَه في حاضرهم وفي فهمهم لمستقبلهم. كما أنّه ثبّت موقعَهم الجيوسياسيّ، إذ لم يختلف منذ ذلك الحين دورُهم كنقطة مرور إجباريّة بين آسيا الوسطى وآسيا الصغرى، وكحاجزٍ بشريّ يفصل بين الشرق الفارسيّ والغرب الأوروبيّ أو التركيّ ويرخي بثقله على خيارات الكيانات الكبرى المحيطة به: إيران وتركيا والعراق وسوريا.
على أنّ هذا الدور التاريخيّ الثابت جعل الكردَ يتميّزون بتذبذب خياراتهم السياسيّة، وبفنّ اللعب المزدوج على أوتار تناقضات القوى الكبرى، خصوصًا أنّهم باتوا يشكّلون مطمعًا كبيرًا لكلّ مَن يرغب في اختراق هذه المنطقة الشائكة من الخاصرة. ولا زالت آثارُ هذه الخلفيّة التاريخيّة حاضرةً إلى اليوم، وظاهرةً في ممارستهم للسياسة في خضمّ الحروب التي عصفت ولا تزال بمنطقة آسيا العربيّة طوال العقود الماضية.
أمّا المسلمون فقد اختلفتْ مواقفُهم من الأكراد. فلا شكّ في أنّ الدور البطولي للقائد الإسلاميّ الكبير صلاح الدين الأيّوبيّ، الكُرديّ الهويّة، قد رفع أسهمَ الكرد إسلاميًّا بشكلٍ كبير. لكنّ المسلمين، وبخاصّةٍ العرب، لم يتّفقوا على تقبّل الأكراد. بل ذهب بعضُهم بعيدًا في التوجّس منهم، حتى قال في تفسير "يأجوج ومأجوج" الواردتين في القرآن إنّهم الكرد!
أما على الصعيد الفقهيّ فقد نُقلت عدة روايات إسلاميّة عن كون الزرادشتيّة من أهل الكتاب، وقبلتْ بها طائفةٌ من علماء الإسلام ورفضها آخرون. ففي كتاب مجمع الفائدة (ج7/ص438) أورد الشيخ الأردبيليّ، وهو من كبار علماء المذهب الإسلاميّ الشيعيّ: "قيل كان لهم نبيّ وكتاب قتلوه وحرقوه، واسمُ نبيّهم زردشت واسم كتابه جاماست."[1] أمّا أحمد ابن حنبل، ومعه مالك بن أنس والشيخ الشافعيّ، وهم من كبار علماء المسلمين السنّة ورؤساء المذهب، فقد ذهبوا إلى عدم اعتبارهم من أهل الكتاب، بدليل تحريمهم الزواجَ منهم والتعاملَ معهم، بينما يُحلّون ذلك لليهود والنصارى.[2]
***
بين خيارات الغرب والشرق، وعلى مفترق مصالح دوليّة وخيارات كبرى، وفوق ثروات طبيعيّة ضخمة، يقف الأكرادُ اليوم. وقد برهنت الحروبُ الأخيرةُ في سوريا والعراق وعلى الجبهات التركيّة من جهة، والإيرانيّة من جهة أخرى، أنّ الأكراد ليسوا بالجماعة الساذجة أو السهلة، وأنّ خياراتِهم الكبرى غير ثابتة، ومواقفَهم غير متوقّعة بشكلٍ يُركن إليه. فهم ينسّقون مع الايرانيين، كما ينسّقون مع الأميركيين والإسرائيليين. وهم يحاربون التركيّ، ويتوجّسون من الروس والفرس. ولا يبدو واضحًا سوى أنّهم سيقاتلون جاهدين من أجل الحفاظ على موطنهم التاريخيّ، واكتساب استقلالٍ مُعترفٍ به كدولة قوميّة كُرديّة أكبر من كردستان العراق حاليًّا، تقبل بالاختلاف الدينيّ وسيلةً للحفاظ على التاريخ الزرادشتيّ وإنْ كانت تدين بالاسلام دينًا رسميًّا.
ويبقى على الأيّام أن تبرهن صدقَ الحلم الكُرديّ من عدمه.
بيروت
[1]الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان في شرح أرشاد الأذهان،ج7، صفحة 438، تحقيق حسين الاصفهاني، قم.
[2] جمعه وأعدّه الاستاذ عبدالرحمن بن محمد القماش، الحاوي في تفسير القرآن الكريم، صفحة 1796، القرطبي، فصل في الاختلاف في نكاح نساء المجوس.