من أصعب الأمور تفسيرُ الظواهر الجديدة في عوالم الحرب والسياسة والاجتماع. ذلك لأنّ ثمّة عوائقَ نظريّةً تأتي من الماضي، وعوائقَ نظريّةً تحملها الظواهرُ الجديدةُ نفسُها، ولا سيّما بسبب الجديدِ فيها وما يأتي به من أبعادٍ مستقبليّة.
ما حدث في رمضان من اشتباكاتٍ في القدس والمسجد الأقصى مع قوّات الاحتلال والمستوطنين، ابتداءً من المواجهة في باب العامود أو حيّ الشيخ جرّاح أو المسجد الأقصى، وما استتبعه من زحف عشرات الألوف من مناطق الـ48 إلى المسجد الأقصى والتصدّي لتهديد المستوطنين وجماعات الهيكل باقتحامه، ثمّ تدخُّلِ صواريخ قطاع غزّة، واندلاعِ ما يشبه حربَ شوارع في المدن الفلسطينيّة الواقعة تحت احتلال 1948، والتظاهراتِ في الضفّة الغربيّة وارتقاءِ عشرةِ شهداء في يومٍ واحد؛ كلُّ ذلك يُنذر بانطلاق انتفاضةٍ ثالثةٍ شاملةٍ قد يكون هدفاها: دحْرَ الاحتلال، وتفكيكَ المستوطنات من القدس والضفة الغربيّة، بلا قيدٍ أو شرط.
أمام هذا المشهد المتعدِّد الظواهر، الجديدةِ والقديمة، نشأ خلافٌ شكليٌّ في تسمية ذلك كلّه. فالبعض أصرّ على تسميته "هبّةً" أو "هبّات،" تحفّظًا عن تسميته "انتفاضةً" أو "انتفاضات." كما وقع خلافٌ على تسمية "حوار الصواريخ" الذي جرى بين جيش العدوّ والمقاومة في قطاع غزّة، وتراوحت التسميةُ بين "اشتباكات" و"حرب رابعة."
لقد أحسن الفقهاءُ حين أكّدوا أنْ "لا مشاحةَ في المصطلح،" وذلك من أجل تجنُّب التورّط في الخلاف اللفظيّ، والتركيزِ على محتوى المصطلح الذي يُراد استخدامُه. ولكنْ حين ننتقل إلى السياسة، وإلى القضيّة الفلسطينيّة تحديدًا، فإنّ التفريقَ بين ما يُعتبر "مصطلحاتٍ مترادفةً" يحمل بُعدًا سياسيًّا بالضرورة. فتسمية "هبّة" مثلًا تتوخّى التخفيفَ قدْرَ الإمكان من البُعد الأعلى للمواجهة؛ ذلك لأنّ بديلها، أي "انتفاضة،" يحمل بُعدَ المواجهة المستدامة والأكثر حسمًا واشتباكًا.
في القديم كان ثمّة خلافٌ في المصطلح بين "هبّة" و"ثورة." فهل نسمّي ما جرى سنة 1929 "هبّةَ البُراق" أمْ "ثورةَ البُراق"؟ وهل نسمّي ما قاده الشيخ عزّ الدين القسّام "ثورةً" أمْ "هبّةً" من باب التخفيف والتلطيف وتدويرِ الزوايا، وذلك لأنّ العاصفة والإعصار لا يمكن أن يسمَّيا هبّةَ ريح أو محضَ نسمات؟
ما حدث في مواجهات رمضان 2021 كان، منذ بدايته، أقوى وأعلى مستوًى من مجرّد "هبّة." فقد كان انطلاقًا لسلسلة هبّات، ووصل إلى مستوى الاشتباك في مدن فلسطين التاريخيّة. وهذا ما سمح، ويسمح، باستخدام مصطلح "انتفاضة فلسطين" في وصفه. فنحن هنا أمام كلّ فلسطين، باختلاف قطاعاتها، وبما فُرض ويُفرض عليها من تجزيء. أمّا فلسطينيّو الخارج فهم، طبعًا، في قلب الصراع منذ انتفاضة شباب باب العامود ومعركة الشيخ جرّاح.
***
على أنّ البُعد الثاني الذي عشناه ونعيشه الآن يتعلّق بتفسير ظاهرة "انتفاضة فلسطين،" كلّ فلسطين. فما الذي حرّكها وأدّى إليها؟
هنالك ثوابتُ قائمةٌ منذ بداية الصراع، وطوال وجود الكيان الصهيونيّ، وما أحدثه من تجزئة موضوعيّة-سياسيّة للمُعطى الفلسطيني (فلسطين المحتلّة عام 1948، الضفّة، والقدس، وقطاع غزّة، وفلسطينيّو الخارج). "انتفاضة فلسطين،" كلّ فلسطين، عبّرتْ عن ثابت وحدة شعب فلسطين ووحدة فلسطين.
ولكنْ لماذا لم تحدثْ هذه الانتفاضةُ من قبل، مع أنّها نابعةٌ من ثابتٍ كان موجودًا دائمًا؟ ما الذي أخرج ما كان ثابتًا، لكنْ في حالة كمون، ليصبح ظاهرةً تمشي على الأرض وتعلن عن وجودها؟
الجواب يجب أن نقرأه في ميزان القوى العالميّ والإقليميّ والعربيّ والفلسطينيّ، كما سنبيِّن. إنّ اندلاعَ انتفاضات رمضان ما كان ليحدث بعد "السُّبات" الطويلِ الأمد لولا تغييراتٌ ملموسةٌ في معادلة ذلك الميزان هزّت بعنفٍ ما تمتّع به الغربُ الاستعماريُّ الإمبرياليّ، حامي المشروع الصهيونيّ، فسمحتْ لصواريخ غزّة بأن تجولَ في كلّ أنحاء فلسطين، وصولاً إلى بُعد 250 كيلومترًا. وهو ما جعل الشعبَ الفلسطينيّ يُخرج أثقالَه في حيفا وعكّا والناصرة ويافا واللد، ثمّ في جنين والخليل ورام الله ونابلس، لتكتملَ حلقاتُ وحدة الشعب الفلسطينيّ. وهذا ما لم يستطع قادةُ الكيان الصهيونيّ أن يحتملوه، فذهبوا إلى الحرب الرابعة ضدّ غزّة، أملًا في وقفه والعودة إلى قواعد الاشتباك المحصورة بحدود القطاع. غير أنّ إمكانات ذلك غير متوفّرة لديهم، لا في ميزان القوى العسكريّ، ولا في ميزان القوى العامّ. فالحرب لا تُكسَب من الجوّ إلاّ إذا كانت تمهيدًا لكسبها في البرّ. وكسبُها من الجوّ وحده يحتاج إلى شعبٍ أو خصمٍ يرفع الرايةَ البيضاء، في حين أنّ العدوّ يواجه عكسَ ذلك تمامًا: قياداتٍ شجاعةً ومصمِّمةً على الانتصار، وشعبًا جُرِّب عام 2014 في حربٍ دامت 52 يومًا من الجوّ بعد فشل الحرب البرّيّة ولم يمتلكْ ردًّا بالصواريخ كما حصل في هذه الحرب.
مَن يتذكّر كيف كانت أربعُ "جيبات" تحْكم قطاعَ غزّة بين العاميْن 1967 و2005 يدرك أيَّ تغييرٍ حدث في ميزان القوى الآن على مستوى الصراع العسكريّ الفلسطينيّ-الصهيونيّ! ومَن يتابع ما حدث خلال الجولة الأخيرة على أرض فلسطين يدرك ما حدث من تغييرٍ في ميزان القوى مع شعبٍ يحارب بالصدور العارية جيشًا متوحِّشًا مدجَّجًا بالسلاح، ومع ذلك راح يغالبه بالنقاط. وقد يغالبه غدًا بجبهةٍ موحّدة، وقيادةٍ مشتركة، وبانتفاضةٍ شعبيّة شاملة، وعصيانٍ مدنيّ، وبتصميمٍ على دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات، من القدس والضفّة، وبلا قيدٍ أو شرط، كما حدث في قطاع غزّة عام 2005.
هذا التغيير في ميزان القوى لولا ما أصاب الكيانَ الصهيونيَّ من عوامل ضعف على المستوى العسكريّ (الفشل في أربع حروب: 2006 في لبنان، و2008/2009 و2012 و2014 في قطاع غزّة) كما على المستوى السياسيّ والاجتماعيّ (ترهّل وغرور وترف وفساد...). وما كان ليحدث أيضًا لولا متغيّراتٌ في موازين القوى العالميّة، والإقليميّة، والعربيّة. هذا من جهة. وتوضيحًا نفصِّل:
1 - على المستوى العالميّ: نشوءُ واقع متعدّد الأقطاب، ولا سيّما مع بروز القطبيْن العالميّيْن الروسيّ والصينيّ (إلى جانب أمريكا وأوروبا واليابان)، وبروزِ أقطابٍ إقليميّة (الهند، وتركيا، وإيران، وجنوب أفريقيا). وهو ما أفقد أمريكا والغربَ سيطرتَهما التاريخيّةَ شبهَ المطلقة على النظام العالميّ والإقليميّ، لا سيما عسكريًّا واقتصاديًّا، وأدخل العالمَ والإقليمَ في حالةٍ من الفوضى واللايقين. ولعلّ ما يحدث في فلسطين هو من الدلائل القويّة على ذلك.
2 - أصبحت المواجهةُ بين أمريكا والكيان الصهيونيّ من جهة، وإيران ومحورِ المقاومة (ومن ضمنه الفلسطينيّون) من جهةٍ أخرى، نقطةَ الصراع المركزيّة التي ستقرّر مصيرَ المشروع الصهيونيّ والقضيّة الفلسطينيّة لعشرات السنين القادمة.
3 - خرجتْ تركيا من سيطرة الناتو والغرب، ومن شبهِ التحالف مع الكيان الصهيونيّ، لتصبح قطبًا إقليميًّا، اقتصاديًّا وسياسيًّا وعسكريًّا، أحدث تغييرًا في ميزان القوى الإقليميّ عمّا كان عليه خلال ستّة عقود بعد العام 1949.
4 - ثمّة بعدٌ لا يَظْهر دورُه المباشرُ في ميزان القوى العربيّ، ويتمثّل في تداعي النظام العربيّ، وفي فقدان الدول العربيّة المطبِّعة أدوارَها السابقة. وهذا بدوره أفقد هذه الدولَ قدرتَها على التحكّم السلبيّ بالقرار الفلسطينيّ وتحديدِ سقوفه في الصراع. الوضع العربيّ، في ضعفه العامّ الراهن، يسمح بإطلاق انتفاضةٍ جديدةٍ في فلسطين، بقرارٍ فلسطينيّ، وبتداعياتٍ فلسطينيّةٍ ذاتيّة، وبوحدةٍ فلسطينيّة متينة؛ مثلما سمح بخروج الثابت الفلسطينيّ (وحدة الشعب الفلسطينيّ ووحدة فلسطين) من حالة الكمون إلى حالة "التخبيط على الطاولة" قائلًا، وبشبه إجماع، "أنا هنا!"
ولكنْ، مهلًا! فما زال هذا المتغيِّرُ الفلسطينيُّ في بدايته، وما زال في مواجهة احتمالات. فكلُّ تراجعٍ (أو تقدّمٍ) لنظامٍ عالميّ، من دون حربٍ عالميّة، يَعْبُر طريقًا متعرّجًا. هذا في تفاصيل الصراع ومراحلِه الأولى طبعًا. غير أنّ الاتجاهَ العامّ تحدّدتْ ملامحُه في السير نحو نظامٍ عالميٍّ جديد، ونظامٍ إقليميٍّ جديد، ولكنْ ضمن مرحلة اضطرابٍ وفوضى ولايقينٍ قد تطول ما دامت الحربُ العالميّةُ الحاسمةُ ممنوعةً، وما دامت الحروبُ الإقليميّةُ بعيدةً من الحسم، وما دامت الحربُ في فلسطين حربَ وجودٍ ولم تُحسم لحساب الكيان الصهيونيّ خلال مائة عام. أمّا حسمُها في إفشال المشروع الصهيونيّ نهائيًّا، والدخولِ في مرحلة تحرير كلّ فلسطين من النهر إلى البحر، فلم يبدأ بعد. ولكنّه آتٍ، لا ريْب في ذلك، ويمكن أن نحدّدَ سَمْتَه الأساس، وهو الخيارُ الصهيونيُّ بالرحيل... أو البقاءُ فوق صفيحٍ ساخنٍ إلى ما لانهاية. وهذا ما أكّدتْه تجربةُ العدوّ خلال الأعوام المئة الماضية، حين راح يطلب المحالَ، أي اقتلاعَ الشعب الفلسطينيّ وإحلالَ الكيان الصهيونيّ مكانَه.
إذا كانت كلُّ موازين القوى العالميّة في الماضي في مصلحة هذا الكيان، وكان جيشُه ومستوطنوه في عزّ فتوّتهم وبالغِ قوّتهم، وفشل مع ذلك؛ فكيف سيكون الوضعُ حين تتغيّر موازينُ القوى، ويدخل الكيانُ في ترهّله، أمام شعبٍ يلد الشجاعةَ جيلًا بعد جيل، حتى وصلنا إلى جيل شباب الانتفاضة الراهنة والحرب الرابعة؟
الويل لمن لا يتّعظ، فينتظر جيلًا آخرَ قد يجعله يترحّم على الجيل السابق وهو يهزّ المدنَ والساحات ويطلق آلافَ الصواريخ ولا ينضب معينُه أو معينُها!
بيروت